تفسير سورة المطففين
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
--------------------------------------------------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، قال الله -جل وعلا-: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنه- في سنن النسائي، وابن ماجه، قال: لما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة، كان أهلها أخبث الناس كيلا، فنزلت هذه الآية وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فأحسنوا الكيل بعد ذلك قوله -جل وعلا-: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ كلمة "ويل" هذه كلمة عذاب وتهديد، يتوعد الله -جل وعلا- بها من أساء من عباده، وهي كذلك في جميع القرآن.
وأما حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال: ويل، واد في جهنم فهو حديث ضعيف في إسناده دراج أبو السمح، وهو ضعيف، وقد جاء ذلك -أيضا- من وجه آخر عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- برواية عطية، وعطية ضعيف. ولم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه فسر هذه الكلمة بأنها واد في جهنم، ولهذا تؤخذ هذه اللغة، أو يؤخذ معنى هذه الكلمة على ما كان معروفا عند العرب، وأنهم كانوا يستعملون هذه الكلمة للتهديد والوعيد، والله -جل وعلا- يتهدد في مطلع هذه السورة المطففين.
وقد بين الله -جل وعلا- في هذه الآية من هم المطففون؛ فقال -جل وعلا-: الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ يعني: أنهم إذا أرادوا الشراء من الناس، وكالوا ووزنوا فإنهم يأخذون حقهم وافيا وزيادة عليه، أما إذا باعوا إلى الناس، فإنهم ينقصون المكيال والميزان على أي صورة ضعوا ذلك؛ لأن بخس المكاييل والموازين له صور كثيرة، فعلى أي وجه وقع منها كان العبد داخلا في هذا الوعيد الذي توعد الله -جل وعلا- به المطففين.
وقد قال بعض العلماء: إن الله -جل وعلا- قال في هذه الآية: الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ولم يقل الذين إذا اكتالوا من الناس يستوفون، فجاء الله -جل وعلا- بحرف "على " بدلا من "من " وقد التمس بعض العلماء لذلك سببا فقالوا: في هذا إشارة من الله -جل وعلا- إلى أن من فعل هذا الفعل المنكر، فإنما فعله على وجه القهر والقسر والغلبة، حتى ولو كان الذي طفف عليه الموازين والمكاييل ممن له سلطان عليه، لكن هذا المطفف إذا صنع هذه الأشياء بخفية فإنه يكون كالمستعلي على الناس، وكالقاهر لهم، والله تعالى أعلم.
ولما كان بخس المكاييل والموازين أمرا محرما في دين الله -جل وعلا- أمر الله -جل وعلا- في كتابه الكريم بإيفاء المكاييل والموازين، وحرم بخسها، ونهى عن ذلك، وبين -جل وعلا- أن الوزن والكيل بحق وصدق، أن هذا أحسن عاقبة للعبد عند الله -جل وعلا-، كما قال الله -جل وعلا-: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ .
وقال -جل وعلا-: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ .
وقال -جل وعلا-: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا وبين الله -جل وعلا- في كتابه الكريم قصة مدين، قوم شعيب -عليه السلام-، وبين -جل وعلا- أن من أسباب هلاكهم أنهم بخسوا المكاييل والموازين، وفي ذلك عبرة لهذه الأمة، كما قال الله -جل وعلا- في سورة الأعراف: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ .
وقال -جل وعلا- بعد ذلك مبينا عاقبة أمره: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ .
وقال -جل وعلا- في سورة هود: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ثم بين -جل وعلا- عاقبة أمرهم في قوله: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ .
وقال الله -جل وعلا- في سورة الشعراء: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ثم بين -جل وعلا- عاقبة أمرهم في قوله: فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قال العلماء -رحمهم الله-: جمع الله عليهم ثلاثة أصناف من العذاب؛ سمعوا الصيحة حتى تقطعت قلوبهم، ورجفت بهم الأرض، وأنزل الله -جل وعلا- عليهم عذاب يوم الظلة؛ وذلك أنهم رأوا سحابا فظنوا أنه ممطرهم فأنزله الله -جل وعلا- عليهم نارا تلظى.
ثم قال الله -جل وعلا-: أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يعني: ألا يظن أولئك المطففون، الذين يبخسون المكاييل والموازين، أن الله -جل وعلا- سيبعثهم وسيحشرهم إليه، وسيجازيهم على أعمالهم في يوم عظيم، شديد الأهوال، وقد تقدم ذلك.
ثم قال -جل وعلا-: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ يعني: أن الله -جل وعلا- يبعثهم يوم يقوم الناس لرب العالمين، والناس يقومون لرب العالمين، وقد بلغ العرق منهم في الموقف إلى أنصاف آذانهم؛ كما صح بذلك الخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقوم الناس لرب العالمين، ويجازي الله -جل وعلا- في ذلك اليوم أولئك المطففين.
وهذه الآيات تدل على عظم ذنب المطفف؛ لأن الله -جل وعلا- توعده بقوله: وَيْلٌ ثم خوفه الله -جل وعلا- بيوم البعث والنشور، ثم وصف الله -جل وعلا- يوم البعث والنشور بأنه يوم عظيم، ثم ذكر الله -جل وعلا- أن الناس يقومون في هذا اليوم، ولم يقل -جل وعلا- يبعثون؛ تأكيدا منه رب العالمين على شدة الموقف -وهوله، ثم قال الله -جل وعلا-: لِرَبِّ الْعَالَمِينَ فجاء -جل وعلا- بصفة الربوبية، التي تقتضي أن الله -جل وعلا- قادر على كل شيء، لا يعجزه شيء.
ثم قال -جل وعلا- بعد ذلك: " كلا " وهذا فيه ردع وزجر لهم، فهذه المعاني كلها تدل على عظم التطفيف في المكاييل والموازين، وإن رآها الناس حقيرة صغيرة، لكنها عند الله -جل وعلا- عظيمة.
ثم قال -جل وعلا-: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يعني -جل وعلا-: أن كتاب الفجار، وهم الكفار يكون في سجين؛ وسجين هذا موضع في الأرض السفلى، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى في حديث البراء بن عازب -رضي الله عنه-، وذلك في حق الكافر الفاجر؛ فهذا كتابه يوضع في سجين في الأرض السفلى، ويدل على هذا أن الله -جل وعلا- قابل بين سجين، وبين عليين في هذه الآية، وعليون هو الموضع العالي، فيكون سجين هو الموضع الأسفل.
ثم قال -جل وعلا-: وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ وهذا فيه تهويل وتعظيم من شأن سجين؛ لأن الله -جل وعلا- أعدها للكافرين.
ثم قال -جل وعلا- كِتَابٌ مَرْقُومٌ أي ذلك الكتاب الذي يكتب فيه عمل الفاجر هو كتاب مسطور مختوم، لا يزاد فيه ولا ينقص منه، حتى إذا جاء يوم القيامة فإنه يوافى به.
ثم قال -جل وعلا-: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وهذا تهديد للمكذبين، وهؤلاء المكذبون بيّنهم الله -جل وعلا- بعد ذلك، فقال: الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ أي: يكذبون بيوم الجزاء والحساب، وقد بين الله -جل وعلا- هذا الوعيد في قوله: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وقد تقدم في سورة "النبأ" ما أعده الله -جل وعلا- للمكذبين بيوم البعث والنشور.
ثم ذكر الله -جل وعلا- أيضا صفة من صفاتهم فقال -سبحانه-: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قال -جل وعلا-: الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ثم قال: وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ أي: أنه لا يكذب بيوم الدين إلا كل معتد على حق الله -جل وعلا-، وعلى حق الخلق، متمرس في فعل القبائح، حتى أكسبته تلك آثاما كثيرة، ولذا عبّر الله -جل وعلا- عنها بقوله: " أثيم " وهذا يدل على كثرة الآثام التي تحصلها بسبب كفره بالله -جل وعلا-، وعدم قيامه بحق الله، كما أنه تحصلها بسبب اعتدائه على حقوق الخلق.
ثم قال -جل وعلا- في بيان صفته: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ يعني: إذا سمع هذا القرآن يتلى قال: هذه حكايات الأولين، ليست بصدق وليست بحق، كما أخبر الله -جل وعلا- عنهم في مواضع من كتابه: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ثم قال -جل وعلا-: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أي: أن هؤلاء الكفار غلب على قلوبهم، وأحاط بها، وأغلقها ما كانوا يكسبونه من الذنوب؛ فذنوبهم وسيئاتهم هي التي جعلت قلوبهم مغلقة، مغلفة، مطبوعا عليها بسبب كفرهم، ولهذا قال النبي --صلى الله عليه وسلم--: إن العبد إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه -يعني: وجدت نكتة سوداء في قلبه- فإن تركها سقل منها قلبه، أو فإن نزع سقل منه قلبه وإن زاد زادت، ثم قال -صلى الله عليه وسلم- وذلك قوله -تعالى-: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يعني: أن هذه الذنوب التي كانوا يكسبونها تتابعها وتواليها على قلوبهم، يكسبهم هذا الران الذي يؤول بهم إلى أن يطبع على قلوبهم، وأن تغلق قلوبهم فلا يسمعوا الحق، ولا يهتدوا بعد ذلك.
وهذا فيه تعظيم من شأن الذنوب؛ لأن العبد إذا أذنب نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا استمر في هذه الذنوب ازدادت وعظمت هذه النكتة حتى تغطي قلبه، ثم بعد ذلك يكون من الضالين، ولهذا كان بعض السلف يقول: إن المعاصي بريد الكفر، وفي ذلك تحذير عظيم من الوقوع في السيئات والمعاصي؛ لأنها لا تورث إلا الضلال والنار. أعاذنا الله -جل وعلا- منها.
ثم قال -جل وعلا-: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ يعني: أن الكفار يوم القيامة محجوبون عن الله -جل وعلا- لا يرونه، وفي ذلك عذاب عظيم لهم؛ لأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، كما قال الله -جل وعلا-: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وكما قال الله -جل وعلا-: عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ وأما الكفار فهم محجوبون عن الله -جل وعلا- فلا يرونه، وفي ذلك عذاب لهم، وقد استدل الإمام الشافعي -رحمه الله- وغيره من السلف على أن هذه الآية تدل على رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة؛ لأن الله -جل وعلا- إذا أخبر أنه حجب الكفار عن رؤيته يوم القيامة، فذلك دليل على أن المؤمنين يرونه، خلافا لأهل البدع الذين ينفون رؤية الله -جل وعلا- يوم القيامة، ويستدلون بقوله -جل وعلا-: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ .
وقد ذكر العلماء -رحمهم الله- أن هذا ليس فيه دليل على نفي الرؤية عن الله -جل وعلا-؛ لأن الله -جل وعلا- في قوله: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ يعني لا تحيط به الأبصار، وأما الرؤية فإنه يُرى، ولهذا قال أصحاب موسى لموسى: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ يعني: خشوا أن يحيط بهم فرعون وجنوده. فقال لهم موسى: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فهؤلاء قالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ يعني: محاط بنا. فموسى -عليه السلام- قال: " كلا " مع أن فرعون وجنوده كانوا يرونهم، ولهذا تبعوهم في البحر، فدل ذلك على أن هناك فرقا بين الإدراك والرؤية.
ولهذا أجمع علماء السلف من أهل السنة والجماعة على أن الله -جل وعلا- يراه المؤمنون في الآخرة بالأبصار عيانا، كما تواترت بذلك الأخبار عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا لما ذكر عند الإمام مالك -رحمه الله- رجل، ذكر رجل عند الإمام مالك ينكر الرؤية، فقال مالك: السيف السيف، يعني: يقتل. والإمام أحمد لما قيل له في رجل ينكر الرؤية، قال: كافر، وهكذا قال السلف: إن من أنكر رؤية الله -جل وعلا- في الدار الآخرة للمؤمنين فهو كافر بالله العظيم؛ لأنه مناف لما دل عليه كتاب الله، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
ثم قال -جل وعلا-: ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ أي: أن هؤلاء الكفار سيصلون الجحيم، ويعذبون فيها، كما قال الله -جل وعلا-: وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ وقد تقدم بيان ذلك.
ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أي: يقال للكفار يوم القيامة، إذا وضعوا في النار: هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ كما في الآية الأخرى: هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ وفي الآية الثانية: هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ وقد جمع الله -جل وعلا- عليهم في هذه الآيات أنواعا من العذاب؛ فهم محجوبون عن رؤية الله -جل وعلا-، وذلك عذاب، وهم معذبون في نار جهنم عذابا حسيا يقع على أبدانهم وأرواحهم، ثم إنهم يعذبون بالعذاب المعنوي في الدار، إذا كانوا في النار، فيقال لهم: هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ .
نعم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
--------------------------------------------------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، قال الله -جل وعلا-: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنه- في سنن النسائي، وابن ماجه، قال: لما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة، كان أهلها أخبث الناس كيلا، فنزلت هذه الآية وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فأحسنوا الكيل بعد ذلك قوله -جل وعلا-: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ كلمة "ويل" هذه كلمة عذاب وتهديد، يتوعد الله -جل وعلا- بها من أساء من عباده، وهي كذلك في جميع القرآن.
وأما حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال: ويل، واد في جهنم فهو حديث ضعيف في إسناده دراج أبو السمح، وهو ضعيف، وقد جاء ذلك -أيضا- من وجه آخر عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- برواية عطية، وعطية ضعيف. ولم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه فسر هذه الكلمة بأنها واد في جهنم، ولهذا تؤخذ هذه اللغة، أو يؤخذ معنى هذه الكلمة على ما كان معروفا عند العرب، وأنهم كانوا يستعملون هذه الكلمة للتهديد والوعيد، والله -جل وعلا- يتهدد في مطلع هذه السورة المطففين.
وقد بين الله -جل وعلا- في هذه الآية من هم المطففون؛ فقال -جل وعلا-: الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ يعني: أنهم إذا أرادوا الشراء من الناس، وكالوا ووزنوا فإنهم يأخذون حقهم وافيا وزيادة عليه، أما إذا باعوا إلى الناس، فإنهم ينقصون المكيال والميزان على أي صورة ضعوا ذلك؛ لأن بخس المكاييل والموازين له صور كثيرة، فعلى أي وجه وقع منها كان العبد داخلا في هذا الوعيد الذي توعد الله -جل وعلا- به المطففين.
وقد قال بعض العلماء: إن الله -جل وعلا- قال في هذه الآية: الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ولم يقل الذين إذا اكتالوا من الناس يستوفون، فجاء الله -جل وعلا- بحرف "على " بدلا من "من " وقد التمس بعض العلماء لذلك سببا فقالوا: في هذا إشارة من الله -جل وعلا- إلى أن من فعل هذا الفعل المنكر، فإنما فعله على وجه القهر والقسر والغلبة، حتى ولو كان الذي طفف عليه الموازين والمكاييل ممن له سلطان عليه، لكن هذا المطفف إذا صنع هذه الأشياء بخفية فإنه يكون كالمستعلي على الناس، وكالقاهر لهم، والله تعالى أعلم.
ولما كان بخس المكاييل والموازين أمرا محرما في دين الله -جل وعلا- أمر الله -جل وعلا- في كتابه الكريم بإيفاء المكاييل والموازين، وحرم بخسها، ونهى عن ذلك، وبين -جل وعلا- أن الوزن والكيل بحق وصدق، أن هذا أحسن عاقبة للعبد عند الله -جل وعلا-، كما قال الله -جل وعلا-: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ .
وقال -جل وعلا-: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ .
وقال -جل وعلا-: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا وبين الله -جل وعلا- في كتابه الكريم قصة مدين، قوم شعيب -عليه السلام-، وبين -جل وعلا- أن من أسباب هلاكهم أنهم بخسوا المكاييل والموازين، وفي ذلك عبرة لهذه الأمة، كما قال الله -جل وعلا- في سورة الأعراف: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ .
وقال -جل وعلا- بعد ذلك مبينا عاقبة أمره: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ .
وقال -جل وعلا- في سورة هود: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ثم بين -جل وعلا- عاقبة أمرهم في قوله: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ .
وقال الله -جل وعلا- في سورة الشعراء: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ثم بين -جل وعلا- عاقبة أمرهم في قوله: فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قال العلماء -رحمهم الله-: جمع الله عليهم ثلاثة أصناف من العذاب؛ سمعوا الصيحة حتى تقطعت قلوبهم، ورجفت بهم الأرض، وأنزل الله -جل وعلا- عليهم عذاب يوم الظلة؛ وذلك أنهم رأوا سحابا فظنوا أنه ممطرهم فأنزله الله -جل وعلا- عليهم نارا تلظى.
ثم قال الله -جل وعلا-: أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يعني: ألا يظن أولئك المطففون، الذين يبخسون المكاييل والموازين، أن الله -جل وعلا- سيبعثهم وسيحشرهم إليه، وسيجازيهم على أعمالهم في يوم عظيم، شديد الأهوال، وقد تقدم ذلك.
ثم قال -جل وعلا-: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ يعني: أن الله -جل وعلا- يبعثهم يوم يقوم الناس لرب العالمين، والناس يقومون لرب العالمين، وقد بلغ العرق منهم في الموقف إلى أنصاف آذانهم؛ كما صح بذلك الخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقوم الناس لرب العالمين، ويجازي الله -جل وعلا- في ذلك اليوم أولئك المطففين.
وهذه الآيات تدل على عظم ذنب المطفف؛ لأن الله -جل وعلا- توعده بقوله: وَيْلٌ ثم خوفه الله -جل وعلا- بيوم البعث والنشور، ثم وصف الله -جل وعلا- يوم البعث والنشور بأنه يوم عظيم، ثم ذكر الله -جل وعلا- أن الناس يقومون في هذا اليوم، ولم يقل -جل وعلا- يبعثون؛ تأكيدا منه رب العالمين على شدة الموقف -وهوله، ثم قال الله -جل وعلا-: لِرَبِّ الْعَالَمِينَ فجاء -جل وعلا- بصفة الربوبية، التي تقتضي أن الله -جل وعلا- قادر على كل شيء، لا يعجزه شيء.
ثم قال -جل وعلا- بعد ذلك: " كلا " وهذا فيه ردع وزجر لهم، فهذه المعاني كلها تدل على عظم التطفيف في المكاييل والموازين، وإن رآها الناس حقيرة صغيرة، لكنها عند الله -جل وعلا- عظيمة.
ثم قال -جل وعلا-: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يعني -جل وعلا-: أن كتاب الفجار، وهم الكفار يكون في سجين؛ وسجين هذا موضع في الأرض السفلى، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى في حديث البراء بن عازب -رضي الله عنه-، وذلك في حق الكافر الفاجر؛ فهذا كتابه يوضع في سجين في الأرض السفلى، ويدل على هذا أن الله -جل وعلا- قابل بين سجين، وبين عليين في هذه الآية، وعليون هو الموضع العالي، فيكون سجين هو الموضع الأسفل.
ثم قال -جل وعلا-: وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ وهذا فيه تهويل وتعظيم من شأن سجين؛ لأن الله -جل وعلا- أعدها للكافرين.
ثم قال -جل وعلا- كِتَابٌ مَرْقُومٌ أي ذلك الكتاب الذي يكتب فيه عمل الفاجر هو كتاب مسطور مختوم، لا يزاد فيه ولا ينقص منه، حتى إذا جاء يوم القيامة فإنه يوافى به.
ثم قال -جل وعلا-: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وهذا تهديد للمكذبين، وهؤلاء المكذبون بيّنهم الله -جل وعلا- بعد ذلك، فقال: الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ أي: يكذبون بيوم الجزاء والحساب، وقد بين الله -جل وعلا- هذا الوعيد في قوله: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وقد تقدم في سورة "النبأ" ما أعده الله -جل وعلا- للمكذبين بيوم البعث والنشور.
ثم ذكر الله -جل وعلا- أيضا صفة من صفاتهم فقال -سبحانه-: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قال -جل وعلا-: الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ثم قال: وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ أي: أنه لا يكذب بيوم الدين إلا كل معتد على حق الله -جل وعلا-، وعلى حق الخلق، متمرس في فعل القبائح، حتى أكسبته تلك آثاما كثيرة، ولذا عبّر الله -جل وعلا- عنها بقوله: " أثيم " وهذا يدل على كثرة الآثام التي تحصلها بسبب كفره بالله -جل وعلا-، وعدم قيامه بحق الله، كما أنه تحصلها بسبب اعتدائه على حقوق الخلق.
ثم قال -جل وعلا- في بيان صفته: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ يعني: إذا سمع هذا القرآن يتلى قال: هذه حكايات الأولين، ليست بصدق وليست بحق، كما أخبر الله -جل وعلا- عنهم في مواضع من كتابه: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ثم قال -جل وعلا-: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أي: أن هؤلاء الكفار غلب على قلوبهم، وأحاط بها، وأغلقها ما كانوا يكسبونه من الذنوب؛ فذنوبهم وسيئاتهم هي التي جعلت قلوبهم مغلقة، مغلفة، مطبوعا عليها بسبب كفرهم، ولهذا قال النبي --صلى الله عليه وسلم--: إن العبد إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه -يعني: وجدت نكتة سوداء في قلبه- فإن تركها سقل منها قلبه، أو فإن نزع سقل منه قلبه وإن زاد زادت، ثم قال -صلى الله عليه وسلم- وذلك قوله -تعالى-: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يعني: أن هذه الذنوب التي كانوا يكسبونها تتابعها وتواليها على قلوبهم، يكسبهم هذا الران الذي يؤول بهم إلى أن يطبع على قلوبهم، وأن تغلق قلوبهم فلا يسمعوا الحق، ولا يهتدوا بعد ذلك.
وهذا فيه تعظيم من شأن الذنوب؛ لأن العبد إذا أذنب نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا استمر في هذه الذنوب ازدادت وعظمت هذه النكتة حتى تغطي قلبه، ثم بعد ذلك يكون من الضالين، ولهذا كان بعض السلف يقول: إن المعاصي بريد الكفر، وفي ذلك تحذير عظيم من الوقوع في السيئات والمعاصي؛ لأنها لا تورث إلا الضلال والنار. أعاذنا الله -جل وعلا- منها.
ثم قال -جل وعلا-: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ يعني: أن الكفار يوم القيامة محجوبون عن الله -جل وعلا- لا يرونه، وفي ذلك عذاب عظيم لهم؛ لأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، كما قال الله -جل وعلا-: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وكما قال الله -جل وعلا-: عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ وأما الكفار فهم محجوبون عن الله -جل وعلا- فلا يرونه، وفي ذلك عذاب لهم، وقد استدل الإمام الشافعي -رحمه الله- وغيره من السلف على أن هذه الآية تدل على رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة؛ لأن الله -جل وعلا- إذا أخبر أنه حجب الكفار عن رؤيته يوم القيامة، فذلك دليل على أن المؤمنين يرونه، خلافا لأهل البدع الذين ينفون رؤية الله -جل وعلا- يوم القيامة، ويستدلون بقوله -جل وعلا-: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ .
وقد ذكر العلماء -رحمهم الله- أن هذا ليس فيه دليل على نفي الرؤية عن الله -جل وعلا-؛ لأن الله -جل وعلا- في قوله: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ يعني لا تحيط به الأبصار، وأما الرؤية فإنه يُرى، ولهذا قال أصحاب موسى لموسى: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ يعني: خشوا أن يحيط بهم فرعون وجنوده. فقال لهم موسى: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فهؤلاء قالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ يعني: محاط بنا. فموسى -عليه السلام- قال: " كلا " مع أن فرعون وجنوده كانوا يرونهم، ولهذا تبعوهم في البحر، فدل ذلك على أن هناك فرقا بين الإدراك والرؤية.
ولهذا أجمع علماء السلف من أهل السنة والجماعة على أن الله -جل وعلا- يراه المؤمنون في الآخرة بالأبصار عيانا، كما تواترت بذلك الأخبار عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا لما ذكر عند الإمام مالك -رحمه الله- رجل، ذكر رجل عند الإمام مالك ينكر الرؤية، فقال مالك: السيف السيف، يعني: يقتل. والإمام أحمد لما قيل له في رجل ينكر الرؤية، قال: كافر، وهكذا قال السلف: إن من أنكر رؤية الله -جل وعلا- في الدار الآخرة للمؤمنين فهو كافر بالله العظيم؛ لأنه مناف لما دل عليه كتاب الله، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
ثم قال -جل وعلا-: ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ أي: أن هؤلاء الكفار سيصلون الجحيم، ويعذبون فيها، كما قال الله -جل وعلا-: وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ وقد تقدم بيان ذلك.
ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أي: يقال للكفار يوم القيامة، إذا وضعوا في النار: هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ كما في الآية الأخرى: هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ وفي الآية الثانية: هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ وقد جمع الله -جل وعلا- عليهم في هذه الآيات أنواعا من العذاب؛ فهم محجوبون عن رؤية الله -جل وعلا-، وذلك عذاب، وهم معذبون في نار جهنم عذابا حسيا يقع على أبدانهم وأرواحهم، ثم إنهم يعذبون بالعذاب المعنوي في الدار، إذا كانوا في النار، فيقال لهم: هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ .
نعم.