3rabmax.yoo7.com

تفسير سورة النبأ 613623
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا
او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة المنتدي
سنتشرف بتسجيلك
شكرا تفسير سورة النبأ 829894
ادارة المنتدي تفسير سورة النبأ 103798
م

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

3rabmax.yoo7.com

تفسير سورة النبأ 613623
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا
او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة المنتدي
سنتشرف بتسجيلك
شكرا تفسير سورة النبأ 829894
ادارة المنتدي تفسير سورة النبأ 103798
م

3rabmax.yoo7.com

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

محمد جمال يرحب بكم فى منتديات 3rabmax.yoo7.com

محمد جمال يرحب بكم

ارجع

انت الزار رقم

دخول

لقد نسيت كلمة السر

راديو محطة مصر

تدفق ال RSS


Yahoo! 
MSN 
AOL 
Netvibes 
Bloglines 

    تفسير سورة النبأ

    admin
    admin
    الادارة
    الادارة


    الجنس : ذكر
    الجدي عدد المساهمات : 1565
    الحترف : 0
    تاريخ التسجيل : 14/09/2009
    العمر : 33
    الموقع : 3rabmax.yoo7.com

    تفسير سورة النبأ Empty تفسير سورة النبأ

    مُساهمة من طرف admin الإثنين ديسمبر 07, 2009 3:16 pm

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا


    --------------------------------------------------------------------------------


    قال الله -جل وعلا-: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ أي: عن أي شيء يتساءلون، والمتسائلون هم المشركون، وتساؤلهم عن النبأ العظيم، الذي هو يوم البعث والنشور، ووصفه الله -جل وعلا- هنا بأنه يوم عظيم؛ لشدة هوله ومطلعه؛ ولعظم ما يقع فيه من الأحداث التي هي من أمور الغيب، والتي ذكر الله -جل وعلا- أنه يشيب منها الولدان.

    وقد جاء وصف هذا اليوم بأنه يوم عظيم في قول الله -جل وعلا-: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ .

    والمشركون كانوا يتساءلون عن هذا اليوم، ليسوا يتساءلون ليستعدوا له، وإنما كانوا يتساءلون تساؤل المنكر له المستبعد لوقوعه وقد بين الله-جل وعلا- تساؤلهم هذا في آيات كثيرة، كما قال الله -جل وعلا- في الإسراء: وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا وفي سورة النمل: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ .

    وفي سورة السجدة: وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ يعني: إذا تمزقنا وذهبنا أشلاء وبليت الأجساد واختلطت بالتراب "أئنا" يعني ينكرون إعادة الله -جل وعلا- لهم ويستبعدون ذلك.

    وفي سورة يس: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ وفي أوائل سورة ق: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ .

    فدلت هذه الآيات على أنهم كانوا يتساءلون عن يوم البعث والنشور استبعادا له واستهزاء وسخرية؛ لأنهم قالوا: إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ يعني: حكايات وقصص تقال لا حقيقة لها.

    ثم قال -جل وعلا-: الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ يعني: أن الكفار مختلفون في يوم القيامة، فمن الكفار من يجزم جزما قاطعا أنه لا بعث ولا نشور، ومنهم من يشكك في البعث، لكنه لا يجزم بشيء، وهذا هو الأظهر في معنى هذه الآية، وقد دل على هذا قول الله -جل وعلا - في سورة النحل: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ .

    وفي سورة المؤمنون: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ .

    وفي سورة الجاثية: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ .

    فهذا جزم منهم بأنهم لا يبعثون وفي سورة الجاثية في قوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ وهذا هو القسم الثاني منهم.

    والقسم الأول هو الأكثر، الذين يجزمون بإنكار البعث والنشور، والقسم الثاني يشككون ولكن لا يجزمون.

    ثم قال -جل وعلا-: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ هذه كلمة "كلا" تقال للردع والزجر، يعني: ليس الأمر كما يقولون، وهذا التكرار في قوله: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ هذا مبالغة في الزجر عن هذا الفعل، ومبالغة في تأكيد وقوع العاقبة الوخيمة عليهم جزاء تكذيبهم؛ لأن قوله: سَيَعْلَمُونَ يعني: سيعلمون عاقبة التكذيب، وعاقبة تكذيبهم هذا الذي توعهدهم الله -عز وجل به- في هذه الآية، لم يصرح به في هذه الآية، لكن جاء بيانه في آيات كثيرة، كما في سورة يونس: إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وهم الكافرون بالبعث إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ .

    وفي سورة الإسراء: وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا .

    يعني يحشرون صما لا يسمعون، وعميا لا يبصرون، وبكما لا ينطقون، ثم قال -جل وعلا-: ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ .

    ثم ذكر الله -جل وعلا- في سورة الأنبياء أيضا عاقبة هذا التكذيب وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وهذا هو إنكار البعث قال الله -جل وعلا-: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ .

    وفي أوائل الصافات: وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ إذا بعثوا يوم القيامة -وقد كانوا من قبل يستسخرون- قالوا: يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ قالت الملائكة أو المؤمنون: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ قال الله -جل وعلا-: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ .

    وفي السورة نفسها إذا أدخل الله -جل وعلا- المؤمنين الجنة وأدخل الكافرين النار، وجاءت المحاورة بين المؤمن والكافر الذي كان له قرين في الدنيا فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ يعني: من أهل الجنة: إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يعني: صاحب، يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ يعني: مجزيون، قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ فكان عاقبة التكذيب بيوم الدين أن كان في وسط الجحيم.

    وفي سورة المرسلات بين الله -جل وعلا- أيضا عاقبة هذا التكذيب انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ يعني: إن الظل الذي يستظل به الكافرون هو ظل من دخان، لايقيهم الحر، ويأتيهم من هذا الدخان …كما في آية الواقعة وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ يعني: أن النار ترمي …أو شرارة النار في حجمها وكبرها مثل القصر العظيم كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ يعني: كأنه جمل أصفر في اللون، والجمل الأصفر: المراد به الجمل الأسود، والجمال السود …يكون السواد غالبا هذا مشرب بصفرة، وهذا هو جزاء التكذيب بيوم الدين.

    ولهذا قال تعالى: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ .

    فقوله -جل وعلا- في هذه الآية: سَيَعْلَمُونَ هذا هو الذي فصله الله -جل وعلا- في آيات أخرى وبينه، وهي أن مردهم إلى النار، وأنهم يعذبون فيها جزاء على تكذيبهم بالبعث بعد الموت.

    ومن هذه الآية يُستدل على أن العبد المؤمن لا يكون مؤمنا إلا إذا أيقن يقينا جازما لا شك فيه أن الله -جل وعلا- يبعث الخلق ويجازيهم، وهذا من أركان الإيمان، كما في حديث جبريل -عليه السلام- لما سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره وفي رواية: وأن تؤمن بالبعث بعد الموت وفي رواية: وأن تؤمن بلقاء الله .

    والله -جل وعلا- جعل الإيمان بالبعث من صفات المؤمنين المفلحين في أوائل سورة البقرة ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فمن لم يؤمن بالآخرة فليس بمؤمن، وليس على هدى، بل هو في ضلال، وليس من المفلحين، بل هو من الأشقياء الخاسرين.

    وقال -جل وعلا-: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ .

    فلا يقبل من أحد عمل إلا إذا كان مؤمنا باليوم الآخر؛ ولهذا الكفار لما كانوا لا يؤمنون بالبعث بعد الموت لم تكن أعمالهم الصالحة تنفعهم، كما قال تعالى في سورة الفرقان: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا .

    فكان عاقبة تكذيبهم باليوم الآخر أن عملهم في الآخرة يكون كلا شيء؛ ولهذا ثبت في الصحيح أن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم- في شأن عبد الله بن جدعان، كان في الجاهلية: إنه كان يقري الضيف، ويحمل الكَل، ويكسب المعدوم أذلك نافعه؟ فقال -عليه الصلاة والسلام-: إنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين .

    قال العلماء: معناه: أنه كان كافرا بالبعث والنشور، فلم ينفعه إحسانه إلى الخلق، ولا اتصافه بمكارم الأخلاق؛ لأنه لم يكن مؤمنا بالبعث، فمن لم يؤمن بالبعث والنشور فأعماله باطلة وهباء منثور.

    ولهذا قال الله -جل وعلا-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا فبين -جل وعلا- أن الكفر باليوم الآخر يكون صاحبه من أهل الضلال البعيد، وقرنه بالكفر به -جل وعلا- بالكفر بملائكته ورسله واليوم الآخر.

    فالإيمان بالبعث والنشور لا يتحقق لعبد إيمان إلا به، كما قال الله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ إلى قوله -جل وعلا-: أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ .

    ولهذا كان الأنبياء والمرسلون مهتمين بشأن هذا اليوم وتقريره للخلق، ونطقهم به.

    نوح -عليه السلام- قال لقومه: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا .

    وإبراهيم -عليه السلام- وهو يخاطب قومه -سورة الشعراء- ويصف رب العالمين في قوله: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ إلى أن قال: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ وهذا متضمن للإيمان بالبعث، وقال: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ففيه يوم يُردّ إليه العباد.

    ونبي الله يوسف -عليه السلام- يقول: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ .

    والله -جل وعلا- أوحى إلى نبيه موسى -عليه السلام- فيما أوحى إليه كما في أوائل سورة طه: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى .

    وعيسى -عليه السلام- يقول: وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا .

    والمؤمن من آل فرعون يقول: يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ثم قال بعد ذلك: لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ .

    فالأنبياء قبل نبينا -صلى الله عليه وسلم- كانوا مؤمنين باليوم الآخر، يدعون أقوامهم إليه؛ ولهذا أخبر الله -جل وعلا- عن بعض الأمم أنهم كذبوا بهذا اليوم، كما في أوائل الحاقة كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ … إلى آخر الآيات.

    فثمود وعاد كذبوا بالقارعة، وهو اسم من أسماء يوم القيامة، وثمود وعاد كذبوا بوقوع القيامة، وسمي قارعة؛ لأنه يقرع القلوب بشدة فزعه وهوله.

    فالمؤمن لا يكون مؤمنا إلا بالإيمان بالبعث والنشور بلا تردد، فمن تردد، شك هل هناك بعث أو ليس هناك بعث فهو كافر، فضلا عن من أنكر البعث والنشور.

    وهذا كما دل على البعث الشرع الحكيم دلت عليه حتى الأدلة العقلية؛ ولهذا سيأتي بعد هذه الآيات تقرير الله -جل وعلا- للكفار بشأن البعث، وما نصبه -جل وعلا- من الآيات الدالة على قدرته -جل وعلا- على إعادة الخلق، كما بدأهم، وستأتي -إن شاء الله- الدرس القادم.

    هذا ما تضمنته هذه الآيات والعلم عند الله -جل وعلا-

    س: هذا سائل يسأل يقول: قلت: إن الصحابة أخذوا التفسير عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فكيف إذا اختلف الصحابة والتابعون نتحرى الأقرب؟ لماذا نأخذ بقول الصحابة؟ نرجوا الإيضاح؟

    ج: إذا أجمع الصحابة على شيء فقول من بعدهم لا حجة فيه، لكن يراد أن الصحابة إذا اختلفوا فيما بينهم، منهم من يفسر القرآن بهذا ومنهم من يفسره بهذا، فهنا نأخذ من أقوال الصحابة ما كان أقرب إلى الكتاب والسنة، لا ريب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بين لأصحابه ما نزل إليهم، وهذا لا نشك فيه؛ لأننا إذا شككنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يبين لهم ما نزل إليهم لم يكن هذا الدين كاملا والله -جل وعلا- قد أمره به وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ .

    فنبينا -صلى الله عليه وسلم- بين للناس، لكن هذا البيان أحيانا قد لا يبلغنا، أو قد يبلغنا بسند ضعيف، وأحيانا بعض الصحابة قد يبلغه تفسير النبي -صلى الله عليه وسلم- والآخر لا يبلغه التفسير، فننظر في أقوال الصحابة إذا اختلفوا فيما بينهم الأقرب منها إلى الكتاب والسنة.

    لكن إذا اختلف الصحابة … كانوا في كفة والتابعون في كفة فلا ريب أننا نأخذ بأقوال الصحابة جزما، لكن إذا اختلف الصحابة فيما بينهم، أو اختلف التابعون فيما بينهم، فكان التابعون طائفتين، طائفة تقول بهذا وطائفة بهذا، فهؤلاء نرجح من أقوالهم ما دل الدليل من كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- على ترجيحه.

    س: هذا السائل يقول: هل في القرآن مبالغة؟

    ج: إن كان يريد صيغ المبالغة واردة في القرآن؟ هذه واردة: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ "غفار" هذه صيغة مبالغة، هناك صيغ مبالغة تدل على كثرة الشيء وعلى عظمه، وهذه صفات مدح، أو تكون أحيانا واردة في حق المشركين، كثرة إشراكهم بالله -جل وعلا- أو في العصاة، هذه تكون مبالغة في الذم، قد تكون مبالغة في المدح وقد تكون مبالغة في الذم، وهذه لا تخرج القرآن عن أن يكون حقا؛ لأن القرآن ألفاظه هي أحسن ما يدل به على معاني القرآن، كما قال الله -جل وعلا-: وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا .

    فالحق: هو المعنى، والمدلول: من كتاب الله -جل وعلا-، والأحسن تفسيرا: هو كلام الله -جل وعلا-، وهذه الألفاظ -ألفاظ القرآن- هي الأحسن تفسيرا؛ لأنك لا تستطيع أن تغير كلمة من كلمات القرآن لتدلل بها على المعنى الذي أراده الله -عز وجل.

    فإن كان المراد المبالغة، يعني: ذِكر أشياء لا حقيقة لها، أو ذكر أشياء هي في نفسها حقيقة، ولكن فيها زيادة، بحيث تخرج الكلام عن أن يكون صحيحا تمام الصحة، هذا غلط ولا يجوز أن يقال في القرآن هذا؛ لأن القرآن كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا .

    وإن كان المراد أنها تأتي في صيغ المبالغة المعروفة عند أهل اللغة، فهذا في القرآن موجود، ولكن في القرآن حق، على حقيقتها.

    الشعراء والبشر قد يبالغون في وصف الناس، وقد يبالغون في وصف الأشياء، وقد يبالغون في ذم الناس، ويخرجون بها عن الحقيقة؛ ولهذا وصف الله -جل وعلا- طائفة منهم قال: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا .

    فالذين يقولون الحق بدون مبالغة هؤلاء شعرهم ممدوح، والذين يقولون شيئا لا يُفعل أو شيئا لا حقيقة له أو زائدا عن الحقيقة، فهذا شيء مذموم والقرآن بحمد الله -جل وعلا- ألفاظه مطابقة لمدلولاته ومعانيه.

    س: هذا سائل يسأل يقول: ما معنى قوله تعالى: بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .

    ج: أهل السنة والجماعة يمرون آيات الصفات كما جاءت، وهذا حق لا إشكال فيه، لكن هناك معان مركبة، ومعان مفردة، هذه المعاني المركبة تختلف؛ المعنى المفرد غير المعنى الذي يكون في السياق، وهذه المسألة فيها إطالة. غدا -إن شاء الله- بداية الدرس نشرح لكم مذهب أهل السنة في مثل هذه الآيات. نعم.

    والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    لمّا بين الله -جل وعلا- حال الكفار في موقفهم من يوم البعث والنشور وأنهم فريقان: فريق ينكرون البعث إنكارا جازما، وفريق يشكون في البعث، بيّن الله -جل وعلا- فيما يأتي من الآيات الدلائل الدالة على قدرته -جل وعلا- على إحياء الموتى، وهذه الدلائل هي دلائل مشاهدة، تُرى بالأبصار، ولا يستطيع أحد أن ينكرها؛ لأن إنكار الأشياء المحسوسة المعلومة المشاهدة هذا لا ينكره عاقل؛ ولهذا قال الله -جل وعلا-: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا أي: ألم نجعل الأرض ممهدة مستقرة موطأة مذللة؛ لأن الأرض لا يمكن الانتفاع بها على الوجه الأكمل إلا إذا كانت مهيأة، وموطّأة للإنسان.

    وهذه الآية قد ذكر الله -جل وعلا- بيانها في آيات كثيرة من كتابه، كما قال الله -جل وعلا- في سورة غافر: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا يعني مستقرا تستقرون عليه، وقال -جل وعلا-: وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ يعني: جعلها مفروشة، قال -جل وعلا-: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا يعني: منبسطة وقال -جل وعلا-: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ يعني: جعلها ممتدة في طولها وفي عرضها، وقال -جل وعلا-: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا يعني: مذللة.

    فهذه الآيات كلها تشرح هذه الآية وتبينها، كما تشرح الآية المماثلة لها في سورة طه، ففي سورة طه قال الله -جل وعلا-: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وفي قراءة "الذي جعل لكم الأرض مهادا".

    فالمهاد: هو ما بينه الله -جل وعلا- في الآيات السابقة فهذه الأرض جعلها الله -جل وعلا- لعباده ممهدة مذللة مهيأة للسكنى والعمل عليها.

    وهذا من دلائل وحدانيته -جل وعلا- ومن دلائل قدرته على البعث؛ ولهذا لفت الله -جل وعلا- …أو أمر العباد بأن يتدبروها وينظروا فيها معتبرين: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ثم قال -جل وعلا-: وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا يعني: أن الله -جل وعلا- جعل الجبال بالنسبة للأرض كالعمد للخيام، فالخيمة تحتاج إلى أوتاد لتحفظها من الاضطراب والحركة والميل، والله -جل وعلا- جعل الجبال على هذه الأرض أو لهذه الأرض بمنزلة الأوتاد للخيمة، تحفظ هذه الأرض من التحرك والاضطراب.

    لأن الأرض لو كانت تتحرك وتضطرب بالعباد لم ينتفعوا بها، وشاهد ذلك أن الإنسان لو ركب في مركبة وهي تتحرك وتضطرب به ما استطاع أن ينتفع تمام الانتفاع؛ ولهذا إذا كان في باخرة أو سفينة واضطربت الأمواج، وتحركت بهذه السفينة، فإنه لا ينتفع في هذه الحالة بمثل انتفاعه لو لم يكن هناك اضطراب.

    وكذلك الإنسان الآن إذا ركب في سيارة، ثم مر بطريق غير معبّد أو فيه نتوءات فاضطربت عليه السيارة فإنه لا ينتفع وهو بداخل السيارة مثلما لو لم يحصل مثل هذا الاضطراب.

    والأرض لو كانت مضطربة ما انتفع بها الإنسان، وما انتفع بها الحيوان، ولما صلحت عليها النباتات تمام الصلاحية؛ ولهذا إذا وقع حركة واضطراب في الأرض فإن الناس يفزعون، وتضطرب عليهم معايشهم؛ لأن الله -جل وعلا- جعل لهم هذه الأرض ساكنة، ولا يستطيعون أن يعيشوا عليها وهي مضطربة، فلذلك إذا حصل فيها أدنى اضطراب فزع الخلق واضطربت عليهم أمورهم.

    وقد بين الله -جل وعلا- في آيات أخرى أنه جعل هذه الجبال رواسي لهذه الأرض ترسّيها، كما قال -جل وعلا-: وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا يعني لئلا تضطرب بكم.

    وقال -جل وعلا-: وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ يعني جبالا كبارا؛ لتحفظها من الاضطراب، وهذه هي إحدى فوائد هذه الجبال وفيها فوائد عظيمة، قد تظهر للعباد، وقد يخفى بعضها على العباد. ولله -جل وعلا- في ذلك الحكمة البالغة.

    ولهذا الله -جل وعلا- أمرنا بتدبّرها وتأملها والنظر فيها أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ؛ ولهذا كانت هذه الجبال لافتة حتى لانتباه الكفار، فضمام بن ثعلبة -رضي الله عنه- لما وفد على النبي -صلى الله عليه وسلم- وساءل النبي -عليه الصلاة والسلام- قال له: وبالذي نصب الجبال آلله أرسلك؟ وهذا يدل على أن هذه الجبال علامة شاهدة على وحدانية الله -جل وعلا- وربوبيته.

    ثم قال -جل وعلا-: وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا يعني: خلقناكم ذكرا وأنثى، وهذا الخلق من الله -جل وعلا- بيّن في آيات أخرى أن الذكر والأنثى خرجا من أصل واحد ونفس واحدة، كما قال -جل وعلا- في أوائل سورة النساء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً .

    وقال -جل وعلا- في أوائل الزمر: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا .

    وبين -جل وعلا- أن كلا من الذكر والأنثى مخلوقٌ من ماء، وهذا الماء واحد، ولكن الله -جل وعلا- بقدرته يخلق منه الذكر والأنثى، كما قال الله -جل وعلا- في سورة الفرقان: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا .

    وقال -جل وعلا- في المرسلات: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ وقال -جل وعلا- في سورة الطارق: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ .

    وقال -جل وعلا- في سورة القيامة: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى .

    فالله -جل وعلا- خلق من ماء واحد ذكرا وأنثى، وذلك بقدرته -جل وعلا-، وإلا فالماء واحد، يخرج من الرَّجل، ويقع في رحم المرأة ماء واحد، ولكن الله -جل وعلا- هو الذي يشاء أن يكون ذكرا أو أنثى.

    وهذا فيه دلالة عظيمة على قدرة الله -جل وعلا- وتفرده بالوحدانية وقدرته على بعث الخلائق؛ ولهذا قال الله -جل وعلا-: أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى .

    ثم إن الله -جل وعلا- لمّا خلق الناس زوجين ذكرا وأنثى جعل بينهما اتصالا يحصل به التمتع لكل واحد منهما، ويحصل به النسل، كما قال -جل وعلا-: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً وقال -جل وعلا- في سورة النحل: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ .

    فالله -جل وعلا- في هذه الآيات كلها خلق الذكر والأنثى من نفس واحدة، وأخرجهما من ماء واحد، ثم جعلهما يتصلان، ثم أخرج منهما ذكورا وإناثا، ويجعل من يشاء عقيما، كما قال الله -جل وعلا-: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا .

    وبعض العلماء يفسر قوله -جل وعلا-: وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا يعني: أنواعا يعني أنه جعل الخلق أنواعا، فبنو آدم أنواع: منهم الطويل، ومنهم القصير، ومنهم الأسود، ومنهم الأبيض، ومنهم العربي، ومنهم الأعجمي، في ألوان مختلفة، وهذا المعنى دل عليه قول الله -جل وعلا-: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ .

    ثم قال -جل وعلا-: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا السبت: أصله القطع والمراد بهذه الآية: أن الله -جل وعلا- جعل النوم قطعا أو قاطعا لحركة الأبدان دون الأرواح، والبدن إذا انقطع عن الحركة فإنه تحصل له الراحة؛ ولهذا يفسر بعض المفسرين قوله تعالى: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا أي: جعلناه راحة؛ لأن الانقطاع عن الحركة مع بقاء الروح هذا يورث الراحة للبدن، أما إذا انقطعت الروح فإنه يكون الموت.

    ولهذا كان النوم يسمى الوفاة الصغرى، والموت الوفاة الكبرى، إذا انقطعت حركة الإنسان مع روحه كانت الوفاة الكبرى، وإذا انقطعت حركة البدن دون الروح فهو الوفاة الصغرى، وهو النوم كما قال الله -جل وعلا-: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فالتي لم تمت ويحين أجلها يتوفاها الله -عز وجل- بالنوم، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فالذي قدر الله -جل وعلا- له أن يموت يمسك الله -جل وعلا- روحه، والذي قدر الله -جل وعلا- له الحياة إذا نام فإن الله -جل وعلا- يرسل روحه، فيعود منتشرا في الأرض.

    وقال الله -جل وعلا- في شأن الوفاة الصغرى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ يعني: يجعلكم تنامون بالليل وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى يعني: يبعثكم في النهار فهذا بعث مقابل للنوم، وهناك بعث مقابل للموت البعث المقبل للموت هذا إذا نفخ في الصور النفخة الثانية، والبعث المقابل للنوم هذا إذا استيقظ الإنسان من نومه وقد أرسل الله -جل وعلا- روحه ولم يمسكها ويقبضها إليه.

    وهذا النوم من أعظم الآيات الدالة على إحياء الموتى، فصفة البعث يوم القيامة … أو يبعث الناس يوم القيامة هكذا، هم ميتون ثم يستيقظون، ينزل الله -جل وعلا- عليهم ماء من السماء فينبتون ويقومون لله رب العالمين، فهناك مشابهة بين البعث بعد الموت، وبين الاستيقاظ بعد النوم، فهذه الآية من أعظم الدلائل على إحياء الموتى؛ لأنه إذا كان الله -جل وعلا- قادرا على إيقاظ العبد وبعثه بعد النوم فهو -جل وعلا- قادر على أن يحييه بعد موته.

    ولهذا كان في النوم من الفوائد والنعم على هذه الأمة الشيء الكثير، فهذا النوم قد جعله الله -جل وعلا- راحة للأبدان، وجعله -جل وعلا- تذكرة للعباد؛ ليتذكروا موتهم وبعثهم إلى الله -جل وعلا.

    ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما ثبت عنه في سنته -عليه الصلاة والسلام- أنه كان إذا أراد أن ينام قال: اللهم باسمك أموت وبك أحيا ويقول: باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين .

    وجعل الله -جل وعلا- في هذا النوم أيضا فائدة لعباده المؤمنين؛ إذ جعله -جل وعلا- لهم طمأنينة وسكينة حين التقوا مع أعدائهم في غزوة بدر وفي غزوة أحد، كما قال الله -جل وعلا-: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ والنعاس: هو أول النوم، جعلهم الله -جل وعلا- في نعاس حتى تطمئن قلوبهم.

    وقال -جل وعلا-: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ .

    فهذا النوم قد يجعله الله -جل وعلا- طمأنينة وسكينة لعباده المؤمنين في قلوبهم؛ ولهذا كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كما ثبت- يكون أحدهم ممسكا بالسيف في الغزوة فلا يستيقظ إلا والسيف يسقط من يده، وهذا من إنزال الله -جل وعلا- عليهم الطمأنينة بهذا النعاس.

    فالشاهد أن هذا النوم فيه من الآيات والعظات والعبر ما يدل على وحدانية الله، وكمال قدرته على كل شيء.

    ثم قال الله -جل وعلا-: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا يعني: جعل الله -عز وجل- الليل لباسا؛ لأن هذا الليل إذا غَشي الناس بظلمته عليهم يكون ساترا لهم كاللباس؛ ولهذا الناس يختفون فيه، فالإنسان يستر بدنه باللباس، وكذلك هذا الليل يستر الناس بظلامه.

    ثم قال -جل وعلا-: وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا أي: وقتا للمعاش ينتشر فيه الناس، يقضون فيه مصالحهم، ويسعون فيه لأرزاقهم، يرعون فيه مواشيهم، ويطلبون فيه رزق الله -جل وعلا- وفضله.

    وهذه الآيات الثلاث ذكرها الله -جل وعلا- مجتمعة في سورة الفرقان فقال: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا فقوله: وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا يعني: ينتشر الخلق فيه لقضاء معائشهم.

    وبين -جل وعلا- في آيات أخرى أنه صنع ذلك رحمة بخلقه، وبين لهم وظيفتي الليل والنهار، فقال -جل وعلا- في سورة القصص: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فقوله: لِتَسْكُنُوا فِيهِ أي: في الليل وقوله: لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يعني: في النهار وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تشكرون الله -جل وعلا- على هذا السكن، وتشكرون الله -جل وعلا- على أن جعل لكم هذا النهار الذي تبتغون فيه من فضله.

    وقال -جل وعلا-: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ .

    ثم قال -جل وعلا-: وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا يعني: بنينا فوقكم سبع سماوات محكمة في البناء والقوة، والذي بناها هو الله -جل وعلا- كما قال تعالى: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ والأيد هنا: المراد بها القوة لأن قوله بِأَيْدٍ هذا قال العلماء: مصدر مصدر آد يئيد، وليس جمع "يد".

    قالوا: لأن الله لو أراد أنه بناها بيديه -جل وعلا- لقال: "بأيدينا" كان قال: "والسماء بنيناها بأيدينا" لكن لما قال: بِأَيْدٍ …وجمهور المفسرين من الصحابة وغيرهم على أن المراد القوة فقوله: بِأَيْدٍ هذا: من آد يئيد، بمعنى: قوي وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ .

    فهذا الخلق من الله -جل وعلا- هو الذي بنى هذه السماوات وذكر -جل وعلا- في هذه الآية أنه جعلها سبعا، وهذا وارد في القرآن العظيم أن عدد السماوات سبع، كما في أول سورة المؤمنون: وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وفي آخر سورة الطلاق: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ وفي أوائل سورة تبارك: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وفي سورة نوح: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا فهي سبع سماوات بكتاب الله -جل وعلا.

    وبين -جل وعلا- في هذه الآية أنها محكمة في غاية القوة والإتقان، وقد بين -جل وعلا- هذا الإحكام والإتقان في قوله -سبحانه وتعالى- في أوائل سورة ق: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وفي سورة تبارك: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ .

    فهذه السماوات محكمة في البناء، ليس بها شقوق ولا خروق؛ لأن الذي خلقها هو الذي بيده ملك السماوات والأرض؛ ولهذا لو قلب الإنسان بصره في هذه السماوات ليلحظ فيها خرقا أو شقا لكَلّ بصره وعجز عن إدراك شيء؛ لأن هذا هو إتقان الله الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ .

    ولهذا قال الله -جل وعلا- في سورة الأنبياء: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ يعني: محفوظا من كل شيء لا يصل إليه خروق ولا شقوق ولا هدم ولا نقض، فالله -جل وعلا- جعلها سقفا محفوظا على الأرض، وهذا من شدتها وإتقانها وإحكامها.

    وقد جاء في حديث العباس بن عبد المطلب المشهور بحديث الأوعال: أن كل سماء كثافتها مسيرة خمس مائة عام ولكن هذا الحديث حديث ضعيف هذا الحديث ضعيف، فيه راو مجهول، عبد الله بن عميرة راو مجهول وفي سند الحديث انقطاع؛ لأن عبد الله بن عميرة لم يسمع من الأحنف بن قيس، فهو حديث ضعيف.

    والثابت: ما جاء عن ابن مسعود -رضي الله عنه- من قوله:

    أن مسيرة ما بين كل سماء إلى السماء التي تليها خمس مائة عام لكن ليس فيه بيان كثافة كل سماء.

    وبعض المفسرين يورد حديث الأوعال، أو يشير إلى حديث الأوعال عند هذه الآية استدلالا على قوله تعالى: وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا أن من شدتها أنها كثيفة كثافة مسيرة خمس مائة عام، لكن الحديث لا يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم.

    ثم قال -جل وعلا-: وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا والمراد بذلك: الشمس، والوهاج أو الوهج يجمع بين الشيئين، يجمع الحرارة والتلألؤ أو التوقد؛ ولهذا يقال: وهج النار، يجمع بين الحر والإضاءة، والشمس تجمع بينهما.

    وفي حر الشمس فوائد عظيمة كما أن في إضاءتها فوائد عظيمة قد قال الله -جل وعلا- مطلع سورة يونس: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً ثم قال -جل وعلا:

    … المنعصر بالمطر، لكن لم ينزل المطر بعد، قد تشبع بالمطر لكن المطر لم ينزل، كما يقال: امرأة معصر، يعني: إذا قاربت أن تحيض، وهذا هو الأظهر في معنى هذه الآية، أن المراد "بالمعصرات": هو السحاب؛ لأن الماء ينزل من السحاب كما ذكر الله -جل وعلا - ذلك في مواضع كثيرة.

    كما قال تعالى في أواخر الروم: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ .

    يعني: ترى المطر.. . وقال -جل وعلا - في سورة النور: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ .

    فالماء ينزل من السحاب، وكما قال -جل وعلا- في سورة الأعراف: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا يعني: حتى إذا حملت هذه الرياح سحابًا ثقالا ممتلئة بالماء سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ .

    وقال -جل وعلا - في سورة الواقعة: أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ يعني بالمزن: السحاب.

    فدلت هذه الآيات على أن المراد "بالمعصرات" في هذه الآية: هي السحاب، وأما من فسر "المعصرات" بأنها الرياح التي تحمل السحاب فهذا القول يخالف أكثر آيات القرآن؛ لأن الله -جل وعلا- أثبت أن نزول الماء إنما يكون من السحاب.

    وقول الله -جل وعلا -في سورة الحجر: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ .

    هذه الآية لا تدل على أن المطر ينزل من الرياح، وإنما تدل على أن هذه الرياح تلقح السحاب فينزل بإذن الله -جل وعلا - المطر؛ لأن الله قال: فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وما قال -جل وعلا-: "فأنزلنا من الرياح" قال: فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ والمراد بالسماء العلو، وتفسره الآيات الأخرى، وهو السحاب الذي جعله الله -جل وعلا - في العلو.

    فقوله: وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا المراد به: السحاب وقوله -جل وعلا-: ثَجَّاجًا يعني: منصبا بكثرة، الشيء إذا كان منصبا بكثرة يقال له: ثجاج، وهذا من كمال قدرته -جل وعلا .

    ثم قال -جلا وعلا -: لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا أي: لنخرج بهذا المطر الذي أنزله الله -جل وعلا - من السماء حبا، والمراد بالحب: هو ما ينبت من النبات وييبس ويُدخر، مثل: الحنطة والشعير والأرز والذرة والفول والعدس وغيرها من هذه الأشياء التي تيبس ولا يضرها يبسها، بل تبقى.

    فهذا هو الحب سواء كان يأكلها الأنعام أو الأناسي.

    وقوله: وَنَبَاتًا .

    النبات: هو الشيء الأخضر الرطب، سواء مما يأكله بنوا آدم أو يأكله الأنعام، فهو في حال رطوبته يسمى نباتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا .

    يعني: بساتين ملتفا بعضها على بعض.

    وهذه الآية قد جاء مثلها في القرآن كثير، كما في سورة فاطر: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وقال -جل وعلا - في سورة النمل: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ .

    ثم إن الله -جل وعلا- لم يبين في هذه الآية من المنتفع بهذا الحب والنبات، وقد بينه -جلا وعلا - في آيات أخرى من كتابه، كما قال -جل وعلا - في سورة طه: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى .

    ففي هذه الآية كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ يعني: يأكله الأناسي، ويرعون أنعامهم.

    وفي سورة النحل قال الله -جل وعلا-: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يعني: ترعون يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ففي الآية الأولى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى أهل العقول الصحيحة السليمة، في هذه آيات لهم وعبر، آيات دالة على وحدانية الله، وعلى قدرته، وعلى بعثه الموتى.

    وفي الآية في النحل: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وهذا التذييل في مثل هذه الآيات يقتضي من الإنسان أن يعمل فكره في هذه الآيات؛ لأن إعمال الفكر في مثل هذه الآيات مما يزيده إيمانًا بالله -جل وعلا-.

    وقال -جل وعلا - في سورة السجدة: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ فدلت هذه الآيات على أن الله -جل وعلا - أنزل من السماء ماء فأخرج به هذه النباتات لينتفع بها بنو آدم، وترعى منها أنعامهم، وفي رعي أنعامهم انتفاع لبني آدم.

    فهذه الآيات كلها دالة على وحدانية الله -جل وعلا - وكمال قدرته، ودالة على قدرته على إحياء الموتى بعد بعثهم، ودلائل إحياء الموتى بعد موتهم كثيرة جدًا في كتاب الله -جل وعلا.

    وهذه الدلائل منها: أن الله -جل وعلا - استدل بالخلق الأول أو بالنشأة الأولى على النشأة الأخرى، فالذي خلق الإنسان من عدم قادر على أن ينشئه -جل وعلا - ويعيد خلقه مرة أخرى، كما قال -جل وعلا -: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ وقال -جل وعلا-: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وقال -جل وعلا-: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ .

    وأيضًا نبه الله -جل وعلا - بإحياء الأرض بعد موتها - بإحيائها بالمطر- على إحياء الموتى، كما في أوائل سورة الحج: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ
    admin
    admin
    الادارة
    الادارة


    الجنس : ذكر
    الجدي عدد المساهمات : 1565
    الحترف : 0
    تاريخ التسجيل : 14/09/2009
    العمر : 33
    الموقع : 3rabmax.yoo7.com

    تفسير سورة النبأ Empty تابع تفسير سورة النبأ

    مُساهمة من طرف admin الإثنين ديسمبر 07, 2009 3:18 pm

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا لِلطَّاغِينَ مَآبًا لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا جَزَاءً وِفَاقًا إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا وَكَأْسًا دِهَاقًا لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا


    --------------------------------------------------------------------------------


    الحمد لله رب العالمين. وصلي الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يقول الله -جل وعلا-: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا يعني: أن يوم القيامة جعله الله -جل وعلا- وقتًا يجمع فيه الأولين والآخرين، وهو وقت مؤقت لا يتبدل ولا يتغير ولا يزاد فيه ولا يُنقص منه، كما قال الله -جل وعلا-: وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ .

    وقد بين -جل وعلا- في آيات أخرى ما دلت عليه هذه الآية، وأيضًا أكد هذه الآية في آيات أخرى، فقال الله -جل وعلا -في سورة الدخان: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ قال -جل وعلا - في سورة المرسلات: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ وقال -جل وعلا - مبينًا أنه يجمع الأولين والآخرين قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ .

    وأكد الله -جل وعلا - ذلك في سورة النساء، فأقسم عليه، فقال -سبحانه وتعالى-: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ .

    وبين -جل وعلا- أن هذا الجمع وعد منه -جل وعلا - لا يمكن أن يتخلف، كما قال -سبحانه وتعالى - في أوائل سورة آل عمران: رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ .

    وهذا اليوم يوم الفصل سماه الله -جل وعلا- بهذا الاسم؛ لأن الله -جل وعلا - يفصل فيه بين الخلائق، فيقضي بحكمه وعدله على أهل النار بدخول النار، ويقضي على أهل الجنة برحمته وفضله بدخولها، قد بين الله -جل وعلا - هذا المعنى في أوائل سورة التغابن: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ .

    كما بينه -جل وعلا - في سورة الحج: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ .

    ثم قال -جل وعلا -: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا .

    هذا بيان ليوم الفصل وما يكون فيه، فأخبر -جل وعلا - أنه ينفخ فيه في الصور، والنافخ هو إسرافيل -عليه السلام - والصور: عبارة عن قرن ينفخ فيه الملك، فإذا نفخ فيه الملك عادت الأرواح إلى الأجساد، وقام العباد لله -جل وعلا -، وهذه هي النفخة الثانية.

    النفخة الأولى: هي نفخة الصعق والفزع، إذا نفخ في الصور صعق من في السموات والأرض، وخروا جميعًا أمواتًا، ثم بعد ذلك لمدة أربعين: إما يوم أو شهر أو سنة، لا يدري راوي الحديث أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه- أيّ ذلك أراد النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- أخبر أن ما بين النفختين أربعون، فقيل لأبي هريرة: أربعون سنة؟ قال: أبيت، قيل: أربعون شهرًا؟ قال: أبيت، قيل له: أربعون يوما؟ قال: أبيت .

    فيكون بين النفختين مدة أربعين، ثم ينفخ في الصور فيقوم العباد لحشرهم إلى الله -جل وعلا - وهو المراد بهذه الآية.

    وقوله -جل وعلا-: فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا أي: جماعات.

    قال بعض العلماء: إن المراد أن كل أمة تقدم ومعها رسولها، وبه فسر قول الله -جل وعلا - في سورة الإسراء: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ .

    وقد ذكر الله -جل وعلا - هذا النفخ في الصور في مواضع كثيرة من كتابه، كما قال الله -جل وعلا - في سورة الزمر: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ .

    وقال -جل وعلا - في سورة يس: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ يعني: يخرجون من القبور مسرعين إلى الله -جل علا -، وقال -جل وعلا - في سورة النازعات: فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ وقال -جل وعلا - في أوائل الصافات: فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ .

    ثم قال الله -جل وعلا-: وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا وهذا يكون يوم الفصل، فإن السماء تفتح وفتحها معناه: أن هذه السماء تزول ويكون نزول الملائكة -عليهم السلام -، إلى الأرض وقد بين الله -جل وعلا - في آيات كثيرة حال السماء يوم القيامة، فقال الله -جل وعلا - في سورة الرحمن: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ أي: أن السماء يوم القيامة تحمر حتى تكون كالوردة، ثم تذوب فتكون كالدهن الذائب، وهذا معنى قول الله -جل وعلا- في سورة المعارج: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ يعني: يوم تكون السماء كالشيء الذائب.

    وأخبر جل وعلا في آيات كثيرة أن السماء تنفطر، وهو معنى هذه الآية التي معنا، كما قال الله تعالى: السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ وقال تعالى: إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ وأخبر -جل وعلا - أن هذه السماء تفرج يوم القيامة، يعني: يكون فيها فروج، وهو الشقوق، كما قال -الله جل وعلا - في سورة المرسلات: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ وكل هذه الآيات تدل على معنى واحد، وهي أن السماء يوم القيامة تزول بالكلية فتنفطر وتنشق وتذهب وتزول بتمامها، كما قال الله -جل وعلا - في سورة الحاقة: وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ .

    فمعنى هذه الآية وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا يعني: أن السماء تنفطر وتنشق وتزول وهذا الزوال لنزول الملائكة؛ لأن الملائكة ينزلون، ثم يجيء رب العالمين لفصل القضاء بين العباد، وقد دل على أن الملائكة تنزل قول الله -جل وعلا- في سورة الفرقان: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا .

    ثم قال -جل وعلا - وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا .

    السراب: هو ما يراه الإنسان في منتصف النهار، ويظن أنه ماء وليس بكذلك، كما قال الله -جل وعلا - في سورة النور: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ .

    فالجبال يوم القيامة تكون لاشيء، ينظر إليها الناظر يعتقد أنها جبال وهي لا شيء؛ لأن الله -جل وعلا - قد سيرها وفتتها ودكها -سبحانه وتعالى-، وقد دل على هذه الآية آيات أخرى في كتاب الله، كما قال الله -جل وعلا - في سورة الكهف: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وفي سورة الطور: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا وفي سورة التكوير: وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ والجبال يوم القيامة تكون لها أحوال متعددة سيأتي بيانها -إن شاء الله - عند قوله -جل وعلا -: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ في سورة القارعة.

    ثم قال الله -جل وعلا -: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا المرصاد: هو المكان الذي يجلس فيه الرصد، وهم المترقبون، فالمكان الذي يجلس فيه شخص يترقب فيه غيره هذا يسمى المرصاد، ومعنى هذه الآية: أن جهنم تكون يوم القيامة ترصد أعداء الله -جل وعلا -، كما قال تعالى: إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا وترقبهم كذلك كما في قوله -جل وعلا -: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ .

    يعني: أنها ترقب الزيادة وتنتظرها، أو أن قوله -جل وعلا -: بالمرصاد: يعني أن هذه النار عليها ملائكة يرصدون أعداء الله -جل علا - ويترقبونهم حتى يوقعوهم فيها، أو أن قوله: "بالمرصاد" يعني: أن الملائكة تكون على هذه النار، يرصدون جميع الخلائق، فمن جاء بجواز من الله -جل وعلا- بمرورها فإنه يمر، وإلا هلك فيها، وقد فسرها بذلك جمع من السلف.

    ثم قال -جل وعلا -: لِلطَّاغِينَ مَآبًا .

    الطاغون: هم الذين تجاوزا الحد في معصية الله -تبارك وتعالى -، وقوله: مَآبًا أي: مرجعًا، يعني: أن الكفار يرجعون إلى هذه النار بعد موتهم ويعذبون فيها، وقد بين الله -جل وعلا - ذلك في آيات أخرى، كما قال تعالى في سورة النازعات: فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى .

    وقال -جل وعلا - في سورة ص: هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ فأخبر -جل وعلا - أن مرجعهم إلى النار لِلطَّاغِينَ مَآبًا .

    ثم قال -جل وعلا-: لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا لابثين: بمعنى: ماكثين، والأحقاب: جمع حقب، والحقب في لغة العرب: هو الدهر.

    وقد جاء عن بعض السلف أن الحقب: ثمانون سنة، وجاء في حديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الحقب: بضع وثمانون سنة، وأورده الحافظ بن كثير في تفسيره، ولكن هذا الحديث حديث ضعيف، لا يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم.

    وأيضًا أورد الحافظ بن كثير حديثًا آخر، وهو أن الحقب مقداره: ثلاثون ألف ألف سنة، يعني: ثلاثين مليون سنة؛ لأن الألف ألف مليون، لكن هذا الحديث حديث منكر جدًا، أنكره العلماء -رحمهم الله -، والحديث الذي قبله حديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنه- في تفسير الحقب: بأنه بضع وثمانون سنة، هذا حديثًا منكر جدًا، وصفه بن عدي بأنه منكر جدًا، وحكم عليه الذهبي بإنه حديث موضوع مكذوب على النبي -صلى الله عليه وسلم.

    والحافظ بن كثير -رحمه الله- أورد هذا الحديث من مسند البزار ولم يتعقبه شيء، ونقل كلام البزار على سليمان بن مسلم أحد رواة هذا الحديث، وأنه بصري مشهور، والصحيح: أنه -كما قال ابن عدي- شبه مجهول، وأن هذا الحديث منكر جدًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الراوي هذا -سليمان- ليس بمعروف عند أهل العلم.

    وقد رواه عن أحد الأئمة المشهورين، وهو سليمان التيمي، والقاعدة أو المعروف عند العلماء أن الراوي المجهول إذا روى عن أحد الأئمة الثقات حديثًا لا يرويه غيره فهو يعتبر حديثًا منكرًا، فإن سليمان التيمي هذا له تلاميذ كثيرون، على رأسهم ابن المبارك، ويحيى بن سعيد القطان، وشعبة، وسفيان ابن عيينة وآخرون، وما أحد منهم روى هذا الحديث عن سليمان، فهذا دليل على أن هذا الحديث لا يُعرف عن سليمان التيمي -رحمه الله .

    ثم إن الحديث يرويه سليمان عن نافع بن عمر، وأصحاب نافع لا يرويه أحد عن نافع، وكذلك لا يرويه أحد عن ابن عمر، فدل ذلك على أن الحديث واهن جدًا، وأنه لا يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم.

    بذلك تبين أنه لا يصح في تفسير الحُقب عن النبي -صلى الله عليه وسلم - شيء لكن أكثر العلماء على أن الحقب ثمانون سنة، وقد أخبر الله -جل وعلا - في هذه الآية أنهم يمكثون في النار أحقابا عديدة، وأطلق الله -جل وعلا - في هذه الآية ولم يقيدها بعدد من الأحقاب، لم يقل ثلاثة أحقاب، ولا أربعة أحقاب، ولا خمسة أحقاب.

    ومن هنا استفاد بعض العلماء أن المراد بهذه الآية: أنهم خالدون في النار أبدًا، لا يخرجون منها، كما دل على ذلك كتاب الله -جل وعلا- في آيات كثيرة، كما في قوله تعالى في سورة الأحزاب: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا .

    قال -جل وعلا - في سورة الجن: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا وقال -جل وعلا - في المائدة: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وقال -جل وعلا - في المائدة: وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ في آيات كثيرة يبين الله -جل وعلا - أنهم خالدون مخلدون فيها.

    فدل ذلك على أن قوله في هذه الآية: لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا أي: لابثين فيها دهورًا عديدة طويلة، بين الله -جل وعلا- في آيات أخرى أنها لا تنقطع ولا تنقضي، بل هم في النار لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا .

    ولا يموتون فيها ولا يحيون، كما أخبر الله -جل وعلا - عنهم في آيات كثيرة، كما في سورة فاطر: لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وفي سورة سبح: لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا إلى غيرها من الآيات الدالة على أنهم يمكثون في النار بدون حد، وأن عذابهم لا ينقطع أبدًا، كما دلت عليه ذلك جملة آيات الكتاب العزيز.

    ثم قال -جل وعلا-: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا بين الله -جل وعلا - في هذه الآية أنهم لا يذوقون في هذه النار بردًا ولا شرابًا، وأخبر -جل وعلا - في آية الأعراف أنهم يسألون أهل الجنة أن يفيضوا عليهم من الماء فيمتنعون؛ لأن الله -جل وعلا - قد قضى بسابق علمه أن هذا الماء محرم عليهم، كما قال الله -جل وعلا - وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ .

    وأخبر -جل وعلا - في هذه الآية أنهم لا يذوقون في النار إلا حميمًا، يعني: ماء حارًا، أو شرابًا قد بلغ الغاية في الحرارة.

    وهذا الحميم يسقونه يوم القيامة، ويتجرعونه ويصب من فوق رءوسهم، كما أخبر الله -جل وعلا - عن حالهم في مواضع كثيرة، فقال -جل وعلا - في سورة محمد: كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ .

    وقال -جل وعلا - في سورة يونس: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وقال -جل وعلا - في الواقعة: فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ .

    قال -جل وعلا - في الصافات: ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ وأما صبّه فوق رءوسهم وتعذيبهم في أبدانهم حتى ينصهر ما في بطونهم ويذوب ففي قول الله -جل وعلا-: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ .

    وفي سورة الحج قول الله -جل وعلا -: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ .

    فبينت هذه الآيات أن هذا الحميم يوم القيامة يسقونه ويصب فوق رءوسهم -أعاذنا الله جل وعلا من ذلك.

    وقوله -جل وعلا -: غَسَّاقًا الغساق: قال بعض العلماء: هو ما يجتمع من قيح وصديد أهل النار، وقال بعض العلماء: هي الأشياء المنتنة من قيح وصديد مع برودة ذلك، بحيث لا يستطيعون شربه، فهو يجمع بين شيئين: نتن الرائحة، كما أنه بارد جدًا لا يستطيعون أن يشربوه، وقد جاء في تفسير "غساق" حديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: لو أن دلوًا من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا .

    وهذا الحديث الصحيح فيه أنه حديث ضعيف لا يثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- لأن فيه دراجًا أبا السمح، وقد ضعفه جمهور العلماء -رحمهم الله - فالحديث بهذا ضعيف، ولا يحتمل من دراج هذا الحديث، وعلى ذلك لا يكون قد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم - في تفسير الغساق شيء، ولكن هذا مستفاد من كلام العلماء.

    وقد أكد الله -جل وعلا- هذه الآية في سورة ص فقال -جل وعلا -: هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ .

    ثم قال -جل وعلا -: جَزَاءً وِفَاقًا يعني: أن الله -جل وعلا- جازى أولئك الكفار على وفق أعمالهم؛ لأن الله -جل وعلا - لا يظلم أحدًا كما قال تعالى: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ .

    فأخبر -جل وعلا - أنه يجزيهم على أعمالهم على وفقهما، لا يظلمهم -جل وعلا - وهذه الآية تدل على كمال عدل الله -جل وعلا -، وأنه -سبحانه وتعالى - لا يظلم الخلق، وأن رحمته -جل وعلا - قد سبقت غضبه؛ لأنه في المؤمنين يجزيهم ويعظم لهم الجزاء، وأما الكافرون فمع كفرهم وشركهم بالله -جل وعلا - وطغيانهم وتكبرهم فإن الله -جل وعلا - بعدله لا يظلمهم ولا يعذبهم بما لم يصنعوا، وإنما -جل وعلا - يعذبهم على أعمالهم، والتعذيب على الأعمال هذا من العدل وليس من الظلم في شيء.

    فقال الله -جل وعلا - في هذه الآية: جَزَاءً وِفَاقًا يعني: موافقا لأعمالهم، لا يزيد رب العالمين الكافرين عذابًا إلا بما قدمته أيديهم، وأما ما لم تفعله أيديهم وتعمله فإن الله -جل وعلا - لا يعذبهم عليه.

    ثم قال الله -جل وعلا -: إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا يعني أن الكفار كانوا لا يؤمنون بيوم البعث والنشور، ولا يظنون أن هناك يومًا يجمعهم الله -جل وعلا - فيه فيحاسبهم على أعمالهم؛ ولهذا كانوا يفعلون الشرك بالله وسيئ الأعمال؛ لأنهم لم يكونوا مؤمنين بالبعث والنشور، كما أخبر الله - -جل وعلا - عنهم في آيات كثيرة -كما تقدم-، فلكونهم لا يؤمنون بأن هناك جزاء ولا حسابًا كانوا ظالمين طاغين مشركين بالله -جل علا.

    ثم قال -جل وعلا -: وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا يعني: أن هؤلاء المشركين كانوا يكذبون بآيات الله، والله -جل وعلا- له آيات له آيات كونية في مخلوقاته، وله آيات شرعية وهي هذا القرآن العظيم الذي يتلى، وبكلا النوعين كذب المشركون لما جاءهم -صلى الله عليه وسلم- من عند الله يخبرهم بألوهية الله وبالبعث والنشور وقالوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ يعني: إن هذا إلا خرافات من خرافات الأولين لا حقيقة لها، وإنما هي أساطير تقال هكذا، وقالوا: إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ يعني: أن ما جاء به إنما هو كذب مفترى، ووصفوه -صلى الله عليه وسلم - بأنه ساحر وشاعر وكاهن إلى غيرها من أوصاف.

    ووصفوا ما جاء به -صلى الله عليه وسلم - بأنه سحر، وكل ذلك تكذيب بهذا القرآن العظيم، وهو داخل في هذه الآية: وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا .

    وأما تكذيبهم بآيات الله الكونية فهو كثير جدًا، ولهذا الله -جل وعلا- أمرهم بأن ينظروا فيها، وأن يتفكروا فيها، وأن يعقلوها ويتدبروها، ومن ذلك ما ذكره الله -جل وعلا - في أوائل هذه السورة أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا … إلى آخر الآيات؛ لأن تدبر مثل هذه الآيات الكونية والشرعية مما يزيد المؤمن إيمانًا بربه -جل وعلا -، كما قال الله -جل وعلا - في آخر التوبة: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ .

    فآيات الله وهو القرآن تزيد المؤمنين إيمانًا، والتفكر في آيات الله الكونية تزيد الناس إيمانًا بالله -جل وعلا- وإيمانًا بعظيم قدرته، وإيمانًا بألوهيته وإيمانًا بقدرته -جل وعلا - على البعث والنشور والجزاء والحساب.

    وقد نبه الله -جل وعلا - عباده إلى ذلك في آيات كثيرة من كتابه العظيم.

    ثم قال -جل وعلا -: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا يعني: أن الله -جل وعلا - قد أحصى كل شيء وضبطه من أعمال العباد، فلا ينسى الله -جل وعلا - شيئا، ولا يضل الله -جل وعلا -ولا يخفى عليه شيء من أعمال العباد، بل هو -جل وعلا - قد علمها وضبطها وأحصاها، ويقيم -جل وعلا - عليهم الحجة بها، كما قال الله -جل وعلا-: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا .

    وقد أكد الله -جل وعلا - وبين معنى هذه الآية في آيات كثيرة، كما قال -جل وعلا - في سورة يس: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ .

    وقال -جل وعلا - في سورة ق: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وقال في سورة الكهف: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا .

    فكل شيء قد أحصاه الله -جل وعلا - كما في آخر سورة الجن: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا .

    فالله -جل وعلا- قد أحصى أعمال العباد وإن نسوها، كما قال تعالى في سورة "قد سمع": يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ فكل شيء مضبوط ومحصى بعدد لا يزاد فيه ولا ينقص؛ لأنه محفوظ بعلم الله -جل وعلا - ولهذا قال الله -تعالى- في آخر سورة القمر: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ .

    يعني: أن كل شيء فعلوه فهو مكتوب في صحف الملائكة، وكل شيء فعلوه من صغير أو كبير كذلك، فهو مسطور في كتب بني آدم، حتى إذا جاء يوم القيامة قال الله -جل وعلا-: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا .

    ثم قال الله -جل وعلا - مبينًا حال المتقين … لما ذكر -جل وعلا - حال الفجار الطاغين، ذكر حال المتقين، وهذا كثير في كتاب الله -جل وعلا - يقرن بين الحالين: يجمع بين حال الكفار، وحال المؤمنين، ويجمع بين ما أعده الله -جل وعلا - للمؤمنين، وبين ما أعده للكافرين، كما في قوله الله -جل وعلا - في سورة طه: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا .

    وقال -جل وعلا - في سورة هود: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ .

    وفي سورة البينة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إلى آخر الآية.

    فالله -جل وعلا - كثيرًا ما يقرن بين الحالين، يقرن -جل وعلا- بينهما ليعلم العبد مصيره إن أطاع الله -جل علا- وحده، ويعلم مآله ومرده إن هو عصى الله -جل وعلا- ولم يؤمن به، وكفر بما جاءت به الرسل.

    وقوله في هذه الآية: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا أي: أن المتقين وهم الذين اتخذوا وقاية من عذاب الله -جل وعلا - بفعل أوامره والكفاف عن نواهيه لهم مفاز عند الله -جل وعلا -، وهذا المفاز هو الفوز، كما قال الله -جل وعلا -: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا .

    وقال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ .

    فقوله في هذه الآية: مَفَازًا يعني: أن لهم فوزًا عظيمًا عند الله -جل وعلا - وهؤلاء المتقون … أو معنى التقوى الذي تقدم دل عليه قول الله -جل وعلا - في أوائل سورة البقرة: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ .

    وفي سورة آل عمران: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ .

    فبينت هاتان الآيتان أن معنى التقوى: هو فعل ما أمر الله -جل وعلا -، وترك ما نهى الله -جل وعلا - وإذا صنع العبد ذلك فإنه بإذن الله يقي نفسه من عذاب الله -جل وعلا - وليس من شرط التقوى ألا يقترف العبد إثمًا، ولكن من شرطها: أن يبادر العبد إلى التوبة إلى الله -جل وعلا - إذا وقعت منه معصية، ولا يصر على هذه المعصية؛ لأن الإصرار على المعصية قد يصيرها كبيرة من كبائر الذنوب، أو يجعل القلب يستمرئ هذه السيئات الصغار، ثم بعد ذلك يفعل كبائر الذنوب وعواظمها، وربما وقع في الإشراك بالله -جل وعلا.

    لأن المعاصي كما ذكر بعض العلماء ذكر أن المعاصي بريد الكفر، يعني: أنها تورث القلب ضلالا، وتورثه قسوة، وبعدا عن الله -جل وعلا - فربما وقع الإنسان في الإشراك بالله -جل وعلا - والكفر به.

    ثم بين جل وعلا هذا "المفاز" بقوله -سبحانه وتعالى-: حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا والحدائق: هي البساتين، وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا الكواعب: هن النساء النواهد، والناهد: هي المرأة التي لم يتدلى ثديها لأنها بكر، وهذا جاء في قوله الله -تبارك وتعالى- في سورة الواقعة عن نساء أهل الجنة: إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا .

    فقوله في هذه الآية: أَبْكَارًا هو معنى قوله في هذه الآية: "كواعب"؛ لأن من علامة البكر أن يكون ثديها على هيئة الكعب لم يتدل؛ ولهذا فسر بعض العلماء قوله تعالى في هذه الآية: "كواعب" فسرها بأنها الأبكار، وبعضهم فسرها بأنها العذارى، وكلها تفاسير صحيحة تعود إلى معنى واحد ذكره الله -جل وعلا - في سورة الواقعة، وأنهن أبكار، يعني: لسن بثيبات، حتى ولو كانت هذه المرأة في الدنيا ثيبًا فإن الله -جل وعلا - ينشئها يوم الدين نشأة أخرى، فتعود بكرًا وذلك بقدرته -جل وعلا - وعزته.

    وأما قوله في آية الواقعة: عُرُبًا فمعناه: أنهن متحببات لأزواجهن، وقوله في الواقعة: أَتْرَابًا وفي هذه الآية: أَتْرَابًا يعني: أن هؤلاء النساء في الجنة على سن واحدة.

    قال بعض السلف: سنهن ثلاثون سنة، وقال بعضهم: ثلاث وثلاثون سنة. والله أعلم.

    فالشاهد: أنهن على سن واحدة، هؤلاء النساء اللاتي في الجنة يرزق بهن عباد الله المؤمنون، قوله: وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا وَكَأْسًا دِهَاقًا يعني: كأسًا ممتلئة ومتتابعة لا تنقطع أبدًا، وإنما كانت لا تنقطع؛ لأن الله -جل وعلا - يمدها بمعين، والمعين: هو الماء الذي يسيح على وجه الأرض من الأنهار وغيرها، فالله -جل وعلا - يمد هذه الكئوس من معين.

    والمراد بالكأس هنا -والله أعلم - الكأس الممتلئة خمرًا؛ لأن العرب كانوا يحبون الخمر حبًا شديدًا، فلهذا كان الله -جل وعلا - يذكرهم بها في نعيم أهل الجنة، لكنها لا تشبه خمر الدنيا، فخمر الدنيا يكون منها صداع وسكُر وبول وقيء، كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: وأما خمر الآخرة فقد نزهها الله -جل وعلا - عن ذلك.

    فقوله -جل وعلا - في هذه الآية: وَكَأْسًا دِهَاقًا يعني كأسًا ممتلئة، والظاهر والله أعلم أنها ممتلئة بالخمر الذي يتلذذون به في الآخرة، وكل ما في الآخرة يتلذذ به عباد الله -جل وعلا - فقوله: "وكأس من معين" جاء بيانه في قول الله جل وعلا في سورة الصافات: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ .

    فبين -جل وعلا - أن هذه الكأس من معين، يعني: لا تنفع أبدًا، من أنهار سائحة على وجه الأرض، وأنها بيضاء، يعني: أنهار مشرقة، أما خمر الدنيا فهي متلونة، ولونها مقزع، فضلًا عن رائحتها، فضلًا عن طعمها.

    ثم بين -جل وعلا - أنهم يشربونها بلذة، وهذه اللذة لا تحدث لهم وجعًا في البطون؛ لأنه هو معنى الغول ولا تحدث لهم ذهابًا في عقولهم.

    وهو معنى قوله: وَلَا يُنْزِفُونَ وقال -جل وعلا - في سورة الواقعة: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ يعني: أنهم لا يصيبهم صداع من شرب هذه الخمر كما يصيب من يشربها في الدنيا، ولا تذهب عقولهم، بل عقولهم باقية، ويشربونها بلذة؛ لأن الجنة طيبة، وما فيها طيّب، وقد أعدها الله -جل وعلا - للطيبين.

    ثم قال -جل وعلا -: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا يعني: لا يسمعون فيها فضول الكلام ولا كلامًا لا فائدة فيه، بل كل الكلام الذي في الجنة له فائدة، وهذا من تمام طيبها ولذتها، وَلَا كِذَّابًا يعني لا يكذب بعضهم بعضًا، ولا يسمعون من بعضهم تأثيمًا لبعض، كما في الآية الأخرى: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا .

    فإذا كانوا لا يسمعون ذلك فماذا يسمعون؟ لا يسمعون إلا سلامًا، كما قال الله -جل وعلا -: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا .

    وبين -جل وعلا - الكلام الذي في الجنة في قوله -جل وعلا-: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وقال -جل وعلا -: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ .

    وقال -جل وعلا -: سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ فهم في سلام، ويلقون تحيتهم سلامًا، ويتحدثون بهذا السلام، يُحيّي بعضهم بعضًا بهذا السلام، وتحييهم الملائكة بهذا السلام؛ لأنهم في دار السلام التي أعدها الله -جل وعلا - لأهل الإسلام والإيمان به.

    ثم قال -جل وعلا -: جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا يعني: أن هذه الجنة جعلها الله -جل وعلا - جزاء للمتقين، وهذا الجزاء من الله -جل وعلا - ليس محدودًا له نهاية، بل ليس له نهاية أبدًا؛ ولهذا قال الله -جل وعلا -: عَطَاءً حِسَابًا يعني: عطاءً كثيرًا لا ينقطع، كما يقال: أحسبت له، يعني: أكثرت له العطاء، فقوله: عَطَاءً حِسَابًا يعني: عطاء لا انقطاع له، كما قال الله -جل وعلا -: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ .

    وقال -جل وعلا -: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ وقال -جل وعلا -: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ فهو غير منقطع، بل دائم ومتصل، مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا .

    وأما أهل النار فإن الله -جل وعلا - كما تقدم - يجزيهم جزاءً وفاقًا لا يزيد عليه، كما قال تعالى: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وقال تعالى في الأنعام: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وقال تعالى في يونس: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا .

    فأهل النار كما تقدم جَزَاءً وِفَاقًا وأما أهل الجنة فهو عطاء كثير لا حد له، ثم إنه عطاء لا ينقطع أبدًا، قال الله -جل وعلا -: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ فهو ممتد في وقته، وممتد أيضًا في كثرته؛ لأن خزائن السماوات والأرض بيد الله -جل وعلا -، وهو إذ يصنع ذلك -سبحانه وتعالى- إنما يعامل عباده برحمته؛ لأن أول عطائه لعباده أنه لو وكلهم إلى أعمالهم لهلكوا، فإن الإنسان لو كان يدخل الجنة بمجرد عمله دون فضل الله ورحمته لم يدخل الجنة أحد، كما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل فها أول عطاء الله لخلقه، أنه -جل وعلا - لا يكلهم إلى أعمالهم ولا يعاملهم بعدله؛ لأنه لو عاملهم بعدله لهلكوا ولكنه يعامل المؤمنين بفضله ورحمته -جل وعلا.

    وهذا يدعو العبد المؤمن إلى أن يتوب إلى الله، وأن ينيب إليه وأن يحسن العمل؛ لأن الله إذا كان يعاملك بالإحسان فليس هناك مقابلة للإحسان إلا بالإحسان، فالله -جل وعلا - لمّا أحسنت في بعض عملك قابلك بإحسان منقطع، فأنت أيضًا أحسنْ عبادة ربك -جل وعلا - شكرًا منك لله -جل وعلا - على هذه النعمة.

    فأول عطاء الله للمتقين أنه يدخلهم الجنة بفضله ورحمته وليس بأعمالهم، ثم بعد ذلك يفيض عليهم من الخيرات التي لا تنقطع أبدًا؛ ولهذا ذكر الله -جل وعلا - أن أهل الجنة خالدين فيها أبدًا إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا .

    فهم خالدون في هذه الجنة أبدًا، ومع هذا الخلود ينعمهم الله -جل وعلا - بأحسن النعيم وأكمله، وينعمهم بنعيم لا ينقطع أبدًا، وبنعيم كثير وافر، فضلًا منه -جل وعلا - ورحمة.

    ثم قال -جل وعلا -: رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا .

    يعني: أن الله -جل وعلا - الذي تفضل على الخلق بما تفضل به عليهم هو رب السموات والأرض وما بينهما، والعباد يوم القيامة لا يملكون منه خطابًا؛ لأن الملك يومئذ لله -جل وعلا -، كما قال تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ فيجيب نفسه: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ .

    فالعباد لا يتكلمون في ذلك اليوم إلا من أذن له الله -جل وعلا-، حتى أقرب الخلق وهم الملائكة والمرسلون لا يتكلمون إلا بإذنه، ولا يشفعون لأحد من الخلق إلا بإذنه، كما قال تعالى: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ .

    يعني: يوم يأتي يوم القيامة لا تكلم نفس إلا بإذن الله -جل وعلا -، والملائكة والروح في ذلك اليوم - وهو عند كثير من المفسرين جبريل -عليه السلام - مصطفون، لأن الملك لله -جل وعلا -، يجيء للفصل بين العباد.

    فهم مصطفون ولا يتكلمون إلا بإذن الله، ولا يتكلم أحد إلا بإذن الله، ولا يتكلم أحد في ذلك الموقف إلا إذا كان يقول كلامًا صوابًا حقًا بإذن الله -جل وعلا -، وأما غيرهم فلا يتكلمون في ذلك الموضع الذي يجيء فيه الرب للفصل بين العباد، وإنما لا يتكلمون؛ لأن الله -جل وعلا - يكون في ذلك الموقف قد غضب غضبًا لم يغضب مثله قبله، ولن يغضب بعده مثله، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم -.

    ثم قال -جل وعلا -: ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ يعني: أن يوم القيامة يوم الحق لا مرية فيه ولا شك، وهو كذلك يوم الحق؛ لأن الله -جل وعلا - يفصل فيه بين عباده بالحق، ويقضي فيه بالحق، ولا تظلم فيه نفس شيئا، وإن كان مثقال حبة من خردل فإن الله -جل وعلا - يأتي بها.

    ثم قال -جل وعلا-: فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا .

    فقوله -جل وعلا -: فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا يعني: مرجعًا وتوبة إلى الله -جل وعلا.

    وهذه الجملة لمّا بين الله -جل وعلا - حال الأتقياء وحال الفجار، كأنه يقول -جل وعلا -: هذا هو البيان والإيضاح، فمن شاء بعد ذلك منكم فليتخذ إلى ربه مآبًا، فمن رجع إلى الله وأناب واستقام على توحيده وطاعته فإنه يكون من أهل الجنة، ومن عصى واستنكف واستكبر فإن مصيره إلى النار، فيكون فيها شيء من التهديد كما في قوله -جل وعلا -: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ وإلا العباد ليسوا مخيرين - ليسوا مخيرين بشرع الله -جل وعلا - أن يطيعوا الله وأن يعصوه.

    ولكن بمشيئة الله الكونية من الناس من يطيع الله ومنهم من يعصيه، ولكن مشيئة الله -جل وعلا - الشرعية الله -جل وعلا - يريد من عباده شرعًا أن يطيعوه، وإلا لم يرسل الرسل، ولم ينزل الكتب، ولم يجعل الجنة والنار، ولكنه يريد منهم أن يطيعوه.

    وقد بين لهم -جل وعلا - سبيل الحق والهدى فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا .

    ومن اتخذ إلى الله -جل وعلا - سبيلًا فإنه يكون من أهل الجنة، ومن لم يتخذ سبيلًا، يعني: تقربًا إلى الله -جل وعلا - فهو من أهل النار.

    وهذا كما قال الله -جل وعلا-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا وقال: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ .

    ثم قال -جل وعلا -: إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يعني: أنذرناكم عذابًا قريبًا في يوم القيامة؛ لأن يوم القيامة قريب، ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم -: بعثت أنا والساعة كهاتين، وقرن بين إصبعيه دلالة على قربها.

    والله -جل وعلا- قد بين في مواضع كثيرة أن الساعة قريبة، وجزاء الله -جل وعلا - يكون بقيام الساعة، كما قال تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ .

    وقال تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا إلى غيرها من الآيات، فيوم القيامة قريب والجزاء فيه يكون قريبًا.

    ثم قال -جل وعلا-: يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ يعني: أن المرء يوم القيامة ينظر ما قدمت يداه، إن خيرًا فبفضل الله، وإن كان سوى ذلك فلا يلومن إلا نفسه، وهذا دلالة على أن الناس يوم القيامة سيفترقون إلى فريقين، كما قسمهم الله -جل وعلا- في هذه السورة.

    إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا لِلطَّاغِينَ مَآبًا في قوله: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ينقسمون إلى قسمين: فريق إلى الجنة، وفريق إلى النار، كما قال -جل وعلا-: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ .

    وهذه الآية مثلها مثل قوله -جل وعلا-: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا .

    وقال الله -جل وعلا - على النار: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ .

    فيوم القيامة ينظر ويعاين العبد ما قدمت يداه، ويجزى على ذلك.

    ثم بعد ذلك بين الله -جل وعلا - حال الكافر إذا قضى الله -جل وعلا - عليه بالنار: وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ؛ لأنه إذا عاين العذاب بأم عينه يتمنى في تلك الساعة أن يكون ترابًا لا يحاسب، يعني: أنه يكون ترابا ما خلق أبدًا، أو أنه يكون كالبهائم التي يقتص من بعضها لبعض ثم يقول الله -جل وعلا - لها كوني ترابًا، فتكون ترابًا.

    وعلى كل هو يتمنى أن يكون في تلك الساعة ترابا لا يحاسب ولا يعاقب، وفي الآية الأخرى: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا .

    فهذه الآيات التي بين الله -جل وعلا - فيها عرض العباد على الله ومصير أهل تقواه، ومصير أهل معصيته هذه. أولًا: ينبغي للمسلم أن يعلم أن الله -جل وعلا - ذكرها في هذا تذكيرًا لنا، وعبرة وعظة، ولم يذكرها -جل وعلا - مجرد خبر، وإنما ذكرها -جل وعلا - ليقول لنا افعلوا ما يوجب دخولكم الجنة، واتقوا ما يوجب دخولكم النار؛ ولهذا أمرنا الله -جل وعلا - في آيات كثيرة بتقواه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ .

    ثم إن أحوال القيامة التي ذكرها الله -جل وعلا - في كتابه هذه ليست أخبارا تقال أو أحداثا تقع على غيرنا، وإنما نحن يوم القيامة سيبعثنا الله -جل وعلا - وسنشاهد هذه الأحوال يوم القيامة، وإذا كنا قد خاطبنا الله -جل وعلا - بذلك فعلينا أن نستعد لما أمامنا بالعمل الصالح الذي يرضي ربنا -جل وعلا -، وهو عمل ميسور مسهول على من يسره الله -جل وعلا - عليه.

    فعلينا أن ننتفع بمثل هذه الآيات وبهذه المواعظ، فلا موعظة أحسن من مواعظ الله -جل وعلا-، ولا تذكير أعظم من تذكير الله -جل وعلا - لخلقه، فإذا تذكرنا الجنة والنار، وتذكرنا وقوفنا بين يدي الله -جل وعلا -، وأيقنا أننا مخاطبون بهذه الآيات، وأن المخاطب ليس المراد به غيرنا فحسب، وإنما نحن مخاطبون بذلك.

    فعلينا أن نستعد لذلك، ودليل تصديقنا لهذه الأخبار أن نعمل لما أمامنا من الفزع والنشور والأهوال يوم القيامة، وما أعده الله -جل وعلا - لعباده الطائعين، وما أعده لعباده العاصين، نعمل ذلك، نكون مصدقين بهذه الأخبار حق التصديق، ولينفعنا الله -جل وعلا - بهذه الذكرى التي ذكرنا بها والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    س: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ. هذا يقول: ما معنى قول الله -عز وجل -: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا ؟

    ج: قول الله -جل وعلا -: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا هذه نسيناها، قوله -جل وعلا -: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا يعني: أن الله -جل وعلا - لما ذكر في هذه الآية أصنافًا من العذاب، بيّن بالآية الأخرى أن هناك أصنافًا من العذاب يعذب بها أعد

      الوقت/التاريخ الآن هو الثلاثاء نوفمبر 26, 2024 4:08 am