تفسير سورة البلد
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ
--------------------------------------------------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
افتتح الله -جل وعلا- هذه السورة بالقسم، بالبلد، والبلد المراد بها: البلد الحرام، مكة، قد أقسم الله -جل وعلا- بها في موضع آخر وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ وقوله -جل وعلا-: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ إما أن يكون معناه، وأنت حالٌّ بهذا البلد يعني: النبي -صلى الله عليه وسلم- بمعنى، وأنت مقيم في هذا البلد، ساكن فيه، وهو مكة، فإن القسم يزداد تأكيدًا إذا قسم بالبيت، وفي محيطه أشرف الخلق -صلى الله عليه وسلم-، فكأنه قسم بأشرف الأمكنة التي يوجد فيها أفضل الخلق -صلى الله عليه وسلم- أو أن يكون معناه، وأنت حلٌّ، أي: وأنت حلال بالبيت الحرام، في وقت رفع حرمته، وهي الساعة التي أحلت للنبي -صلى الله عليه وسلم- لما دخل مكة.
فمكة حرام بحرمة الله -جل وعلا- حرمها الله -جل وعلا- كونًا وشرعًا، حرمها كونًا يوم خلق السماوات والأرض، وحرمها شرعًا على لسان إبراهيم عليه السلام، ثم أظهر ذلك -جل وعلا- على لسان نبينا -صلى الله عليه وسلم- فيكون المراد: هذا إقسام بالبيت الحرام حالة كون هذا البيت حلالًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- قد انتزعت فيه الحرمة، وهذا الوقت هو يوم فتح مكة، فقد أحل للنبي -صلى الله عليه وسلم- ساعة من نهار كما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين أنه قال: إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ثم قال -عليه الصلاة والسلام -: وإنها لم تحل لأحد قبلي، ولن تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار وعلى هذا يكون في هذه الآية بشارة ومعجزة لنبينا -صلى الله عليه وسلم- لأن سورة البلد سورة نزلت بمكة بإجماع العلماء، وكون الله -جل وعلا- يقسم بهذا البلد حالة كونه حلالا للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولما يهاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد إلى المدينة، ولما يأت فتح مكة، فهذا آية من آيات الله، جل وعلا.
ثم قال -جل وعلا-: وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ الوالد هو آدم -عليه السلام- لأن منه البشر، خلقه الله ثم خلق حواء منه، ثم تناسل الخلق بعد ذلك من ذكر، وأنثى إلا عيسى ابن مريم -عليه السلام- فمن أنثى، وهذا آية من آيات الله، وأما بقية الخلق فمن ذكر، وأنثى، فقوله -جل وعلا-: وَمَا وَلَدَ يعني: ما خرج من صلب آدم وتناسل إلى يوم القيامة، وهو الذي عليه جمهور أهل التفسير، فيكون الله -جل وعلا- قد أقسم بأصل المكان، وأقسم بأصل السكان، فالله -جل وعلا- أقسم بأصل المكان، وهي مكة؛ لأن مكة هي أم القرى، كما قال الله -جل وعلا-: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وفي قوله -جل وعلا-: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وأم القرى هي مكة.
وقد قال ابن عباس -رضي الله عنه-: إنها سميت بأم القرى؛ لأن الله -جل وعلا- دحا الأرض من قِبَلها. وبعض التابعين يقول: إن الله سماها بأم القرى؛ لأنها أول ما وضع من الأرض. والله أعلم.
وأما أصل السكان، فهو إقسام بآدم -عليه السلام- وهو أصل البشر الذين يسكنون الأرض، فهذا قسم من الله -جل وعلا- بهذين الأصلين، وقسم بأشياء شريفة في هذه الآية، والمقسم عليه قوله -جل وعلا- لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ الكبد: أصله الشدة، والمراد: أن الله -جل وعلا- خلق الإنسان في شدة من خلقه، وإتقان، وإحكام كما قال الله -جل وعلا-: نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ يعني: نحن خلقناهم وشددنا خلقهم، كما فسرها بذلك ابن عباس، رضي الله عنهما.
ويؤيد هذا أن الله -جل وعلا- بعد هذه الآية ذكر ترفع الإنسان، وإعجابه بنفسه، فكأن الله -جل وعلا- يقول: خلقناه، فأحسنا خلقه، وأحكمناه، وشددناه، ثم بعد ذلك يظن أن الله -جل وعلا- الذي خلقه لا يقدر عليه، وأنه لا يراه، وهذا فيه توبيخ لهذا الإنسان الذي ظن هذا الظن السيئ.
وقوله -جل وعلا-: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ أي أيحسب: أيظن الإنسان أن لن يقدر عليه أحد؟ وقوله: أحد، هذا يشمل الخلق والمخلوق فهو يظن أن لن يقدر عليه أحد سواء كان خالقا، أو مخلوقا.
وقد رد الله -جل وعلا- ذلك وبين -جل وعلا- أنه قادر كما في قوله -جل وعلا-: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ وقال -جل وعلا- في شأن إعادته: بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا أي أن هذا الإنسان الكافر الذي يظن أن الله -جل وعلا- لا يقدر عليه يقول متباهيًا متعاظمًا: أهلكت مالًا كثيرًا؛ لأن اللبد هو المال، أو الشيء المتجمع الذي يعلو بعضه بعضًا، كما قال الله -جل وعلا- في شأنهم: كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا أي كادوا يكونون طبقات بعضها يعلو بعض.
فهذا يقول: أهلكت مالا لبدا، يقول هذا على وجه الرياء والسمعة، ومحبة المدحة من الخلق، ورغبة في ثناء الخلق عليه، ولم يهلك هذا المال في الحق، وإنما أهلكه في الباطل، وهذا شأن الكافر؛ لأنه -كما تقدم- الكافر يجمع المال، ويبخل به، فيعاقبه الله -جل وعلا- عليه، وهذا جمع المال، فأنفقه في غير طريقه.
ثم قال -جل وعلا-: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ أيظن أنه لم يره أحد لا خالق ولا مخلوق؟! بلى إن الله -جل وعلا- قد رآه وعلم حاله، وعلم، أو اطلع على سريرته وعلم ما يظنه بربه من الظن السيئ، وعلم -جل وعلا- ما ينفقه من هذه النفقات التي تقع في غير وجهها، كما قال الله -جل وعلا- مبينا اطلاعه على ذلك: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ فأخبر -جل وعلا- أنه يعلم، وأن هذا الظن باطل وسيئ، لا يليق بمقام الربوبية والألوهية لله، جل وعلا.
ثم قال -جل وعلا- مبينا منته على هذا الإنسان: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ فقوله -جل وعلا-: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ يعني: بينا له الطريقين: طريق الخير؛ ليسلكه، وطريق الشر؛ ليبتعد عنه، وهذه الآية كقول الله -جل وعلا-: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا وعبر الله -جل وعلا- في هذه الآية بقوله: "النجدين" عن الطريق؛ لأن النجد هو الطريق في ارتفاع، فلما كان الله -جل وعلا- قد بين طريق الغواية، وبيَّن طريق الهداية بيانًا بحيث لا يخفى على من رزقه الله بصيرة، صار كالطريق المرتفع الذي يرى رؤية واضحة لا غبش فيها.
وهذه الآية تدل على أن الله -جل وعلا- خلق الخلق، ولم يتركهم سدًى كما ذكر الله -جل وعلا- ذلك في سورة القيامة: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى فالله -جل وعلا- ما تركه سدى، وإنما بين له الطريقين: طريق الخير، وطريق الشر.
ثم قال -جل وعلا-: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ أي هذا الإنسان لم يقتحم العقبة، والاقتحام: هو الدخول في الشيء بشدة وعنف، والعقبة هي الطريق الوعر في الجبل، فقوله -جل وعلا-: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ قال بعض العلماء: هذه العقبة عقبة حقيقية في الآخرة، وهي في النار، ولا يمكن له أن يتجاوزها يوم القيامة إلا بالعمل الصالح، الذي يأتي ذكره بعد ذلك، وبعضهم فسرها بأنها عقبة، وأنها جبل في النار، كل يصعده بحسب عمله، والكافر لا يستطيع أن يصعد هذا الجبل، أو هذه العقبة؛ لأنه ليس له عمل.
والمؤمنون تتفاوت أعمالهم، كما أن الناس يتفاوتون في صعود العقبة التي تكون في الدنيا، بحسب ما أوتوا من القوة، فكذلك بحسب ما كان لهم من العمل الصالح، فإن هذه العقبة التي تكون في الآخرة، تكون قدرتهم عليها بحسب ما هم عليه من العمل الصالح.
وذكر بعض المفسرين، وهو الذي عليه الأكثر، أن هذا مثال ذكره الله -جل وعلا- مثال لمجاهدة الإنسان لنفسه والشيطان والهوى في أعمال البر، فإذا غلب نفسه، وهواه والشيطان بالعمل الصالح، وأداه على وجهه...+ طيب قوله: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ بعض العلماء يقول: إنها على جهة المثال كأن الله -جل وعلا- ذكر عن الكافر، ذكر الله -جل وعلا- أن الشيطان والنفس الأمارة بالسوء والهوى هذه عقبة، إذا عمل الإنسان عملًا صالحًا، وأتى بأعمال البر اقتحم هذه العقبة، وإلا لم يقتحمها، وهذا هو الذي عليه أكثر أهل التفسير؛ لأن الله -جل وعلا- بين ذلك بعد، قال الله -جل وعلا-: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ يعني: أن هذه العقبة، أو أن اقتحام العقبة يحصل بإعتاق الرقيق، وهذا من عمل البر.
أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ أي: يطعم في يوم شديد الجوع، يطعم فيه يتيمًا ذا مقربة، يعني: يتيمًا له به قرابة، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ أي: مسكينًا شديد الجوع ليس عنده شيء؛ لأنه كالذي لصق بالتراب من شدة الجوع، وهذا هو اقتحام العقبة الذي ذكره الله -جل وعلا- في هذا.
وفي هذا دلالة على أن أعمال الخير التي يعملها الإنسان، هي التي يحصل بها اقتحام العقبة، سواء كانت عقبة حقيقية في الآخرة، أو كانت مثالًا في الدنيا.
ومن هذه الآية استنبط بعض العلماء: أنه ينبغي للإنسان أن يراعي الأقرب في النفقة قبل الأبعد؛ لأن الله -جل وعلا-: قال: يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ فهذا في القريب، ثم قال: أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ وهذا في البعيد.
وهذا مراعاة الأقرب، وهو الذي دلت عليه النصوص الشرعية الثابتة عن النبي، صلى الله عليه وسلم.
ثم قال -جل وعلا-: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ يعني: أنه ما اقتحم العقبة، إن هذا الإنسان ما اقتحم العقبة، ولا كان من الذين آمنوا، وتواصوا بالصبر، وتواصوا بالمرحمة، فهذا الإنسان قد تخلى عن الإيمان، وتخلى عن التواصي كما أنه لم يقتحم العقبة بفعل البر، فاجتمعت فيه هذه الصفات، أما لو أنه اقتحم العقبة، وآمن بالله -جل وعلا- وتواصى بالصبر مع إخوانه، بمعنى أن المسلم يوصي أخاه المسلم بالصبر على طاعة الله، والصبر على أقدار الله، والصبر عن معاصي الله، وتواصى مع إخوانه بالمرحمة، أي: وصى بعضهم بعضًا بأن يتراحموا فيما بينهم، لو كان كذلك لكان من أصحاب الميمنة؛ لأن هذه الصفات من صفات أصحاب الميمنة؛ قال -تعالى-: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ .
يعني: الذين اقتحموا العقبة بعمل البر، وآمنوا بالله - جل وعلا- وتواصوا بالصبر، وتواصوا بالمرحمة، هم الذين يصيرون يوم القيامة أصحاب الميمنة، وينجون من عذاب الله، ويفوزون برضاه، والميمنة هذه يعني: يكون من أصحاب الميمنة يوم القيامة، الذين ذكرهم الله -جل وعلا- في سورة الواقعة: فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ يعني: وما أدراك ما أصحاب الميمنة وما شأنهم، ثم بين مصيرهم -جل وعلا- بعد ذلك في قوله: وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ إلى آخر الآيات.
وهنا استشكال استشكاله بعض العلماء، وهو أن الله -جل وعلا- قال: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا والإيمان مقدم على العمل، فلا يقبل من أحد عمل إلا بإيمان، وهنا قدم الأعمال قدم فك الرقبة، وقدم الإطعام على الإيمان، ثم جاء بالإيمان، وجاء به بصيغة التراخي ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا .
وقد أجاب العلماء عن هذا بأن هذا من باب الترتيب الذكري، يعني: ثم اذكر يا محمد أنه كان من الذين آمنوا، وبعضهم يقول: إن الله -جل وعلا- جاء بثم الدالة على التراخي؛ ليبين التباعد الكبير بين فك الرقبة والإطعام مقارنة بالإيمان؛ لأن الإيمان هو الأصل، وهناك مسافة كبيرة بين الإيمان وبين الإطعام؛ لأن الإيمان بالله ينبني عليه غيره؛ لأن الإنسان لو ترك الإطعام وفك الرقاب، فهذا لا ينتقض إيمانه، أما لو أطعم وفك الرقاب، وهو ليس بمؤمن فلا يقبل منه.
ومن هذه الآية استنبط العلماء شرطًا من شروط العمل الصالح، وهو الإيمان: شرط من شروط قبول العمل، وهو الإيمان؛ لأن الله -جل وعلا- قال: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا فقال بعض العلماء: هذا يدل على أنه لا بد أن يكون العمل مبنيًا على عقيدة صحيحة، وهو أول شروط قبول العمل، أن يكون مبنيًا على عقيدة صحيحة، وهذا قرره الله -جل وعلا- في مواضع من كتابه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فدل على أن الكافر لو عمل صالحًا لا يقبل منه.
وقال -جل وعلا-: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا وقال -جل وعلا-: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ فجعل الله -جل وعلا- الإيمان شرطًا لقبول العمل.
ثم الشرط الثاني الذي يليه: إخلاص العمل لله؛ لأن الإيمان بالله أعم من إخلاص العمل لله؛ لأن الإنسان قد يكون ذا عقيدة صحيحة، ولكن يقع منه عمل لم يخلص فيه لله -جل وعلا- فلا بد أن يكون مخلصًا لله، كما قال الله -تعالى-: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ .
والشرط الثالث: أن يكون متابعًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه لا طريق إلى الله إلا عن طريق النبي -صلى الله عليه وسلم-: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
فهذه شروط قبول العمل الثلاثة، والآية اشتملت على أحدها، وهو الإيمان بالله -جل وعلا- كما استدل العلماء بهذه الآية على أن رحمة المؤمنين، وتوصية المؤمن بما ينفعه سواء في أمر دينه، أو دنياه هذه من أسباب الفوز برضا الله -جل وعلا- لأن الله -جل وعلا- قال: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ .
ولهذا لمَّا بين -جل وعلا- أوصاف الذين ينجون من الخسارة يوم القيامة، ذكر -جل وعلا- أنهم يتواصون بالصبر: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ .
وبين -جل وعلا- في صفة أوليائه أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين أوجب لهم جنته، ذكر أن بعضهم يرحم بعضًا كما قال -تعالى-: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ولهذا كان من آثار هذه الرحمة فيما بينهم: أن يكون بعضهم ذليلًا لبعض، كما قال الله -جل وعلا-: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ .
ثم قال -جل وعلا-: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ يعني: الذين كفروا بآيات الله وجحدوها وأعرضوا عنها، وعما جاءت به الرسل، هم أصحاب المشأمة يعني: الذين حصل لهم الشؤم، وهذا الشؤم هو الخسارة والعذاب الأليم في الدار الآخرة، وهذا الشؤم جاء نتيجة كفرهم بالله -جل وعلا- وعصيانهم لأنبياء الله ورسوله.
ثم قال -جل وعلا-: عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ فقوله: "مؤصدة" يعني: أن النار يوم القيامة تطبق عليهم، وتغلق، فلا يستطيعون الخروج منها؛ لأنهم خالدون مخلَّدون في النار، كما تقدم بيان ذلك عند قوله -جل وعلا-: لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا .
[right]
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ
--------------------------------------------------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
افتتح الله -جل وعلا- هذه السورة بالقسم، بالبلد، والبلد المراد بها: البلد الحرام، مكة، قد أقسم الله -جل وعلا- بها في موضع آخر وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ وقوله -جل وعلا-: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ إما أن يكون معناه، وأنت حالٌّ بهذا البلد يعني: النبي -صلى الله عليه وسلم- بمعنى، وأنت مقيم في هذا البلد، ساكن فيه، وهو مكة، فإن القسم يزداد تأكيدًا إذا قسم بالبيت، وفي محيطه أشرف الخلق -صلى الله عليه وسلم-، فكأنه قسم بأشرف الأمكنة التي يوجد فيها أفضل الخلق -صلى الله عليه وسلم- أو أن يكون معناه، وأنت حلٌّ، أي: وأنت حلال بالبيت الحرام، في وقت رفع حرمته، وهي الساعة التي أحلت للنبي -صلى الله عليه وسلم- لما دخل مكة.
فمكة حرام بحرمة الله -جل وعلا- حرمها الله -جل وعلا- كونًا وشرعًا، حرمها كونًا يوم خلق السماوات والأرض، وحرمها شرعًا على لسان إبراهيم عليه السلام، ثم أظهر ذلك -جل وعلا- على لسان نبينا -صلى الله عليه وسلم- فيكون المراد: هذا إقسام بالبيت الحرام حالة كون هذا البيت حلالًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- قد انتزعت فيه الحرمة، وهذا الوقت هو يوم فتح مكة، فقد أحل للنبي -صلى الله عليه وسلم- ساعة من نهار كما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين أنه قال: إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ثم قال -عليه الصلاة والسلام -: وإنها لم تحل لأحد قبلي، ولن تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار وعلى هذا يكون في هذه الآية بشارة ومعجزة لنبينا -صلى الله عليه وسلم- لأن سورة البلد سورة نزلت بمكة بإجماع العلماء، وكون الله -جل وعلا- يقسم بهذا البلد حالة كونه حلالا للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولما يهاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد إلى المدينة، ولما يأت فتح مكة، فهذا آية من آيات الله، جل وعلا.
ثم قال -جل وعلا-: وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ الوالد هو آدم -عليه السلام- لأن منه البشر، خلقه الله ثم خلق حواء منه، ثم تناسل الخلق بعد ذلك من ذكر، وأنثى إلا عيسى ابن مريم -عليه السلام- فمن أنثى، وهذا آية من آيات الله، وأما بقية الخلق فمن ذكر، وأنثى، فقوله -جل وعلا-: وَمَا وَلَدَ يعني: ما خرج من صلب آدم وتناسل إلى يوم القيامة، وهو الذي عليه جمهور أهل التفسير، فيكون الله -جل وعلا- قد أقسم بأصل المكان، وأقسم بأصل السكان، فالله -جل وعلا- أقسم بأصل المكان، وهي مكة؛ لأن مكة هي أم القرى، كما قال الله -جل وعلا-: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وفي قوله -جل وعلا-: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وأم القرى هي مكة.
وقد قال ابن عباس -رضي الله عنه-: إنها سميت بأم القرى؛ لأن الله -جل وعلا- دحا الأرض من قِبَلها. وبعض التابعين يقول: إن الله سماها بأم القرى؛ لأنها أول ما وضع من الأرض. والله أعلم.
وأما أصل السكان، فهو إقسام بآدم -عليه السلام- وهو أصل البشر الذين يسكنون الأرض، فهذا قسم من الله -جل وعلا- بهذين الأصلين، وقسم بأشياء شريفة في هذه الآية، والمقسم عليه قوله -جل وعلا- لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ الكبد: أصله الشدة، والمراد: أن الله -جل وعلا- خلق الإنسان في شدة من خلقه، وإتقان، وإحكام كما قال الله -جل وعلا-: نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ يعني: نحن خلقناهم وشددنا خلقهم، كما فسرها بذلك ابن عباس، رضي الله عنهما.
ويؤيد هذا أن الله -جل وعلا- بعد هذه الآية ذكر ترفع الإنسان، وإعجابه بنفسه، فكأن الله -جل وعلا- يقول: خلقناه، فأحسنا خلقه، وأحكمناه، وشددناه، ثم بعد ذلك يظن أن الله -جل وعلا- الذي خلقه لا يقدر عليه، وأنه لا يراه، وهذا فيه توبيخ لهذا الإنسان الذي ظن هذا الظن السيئ.
وقوله -جل وعلا-: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ أي أيحسب: أيظن الإنسان أن لن يقدر عليه أحد؟ وقوله: أحد، هذا يشمل الخلق والمخلوق فهو يظن أن لن يقدر عليه أحد سواء كان خالقا، أو مخلوقا.
وقد رد الله -جل وعلا- ذلك وبين -جل وعلا- أنه قادر كما في قوله -جل وعلا-: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ وقال -جل وعلا- في شأن إعادته: بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا أي أن هذا الإنسان الكافر الذي يظن أن الله -جل وعلا- لا يقدر عليه يقول متباهيًا متعاظمًا: أهلكت مالًا كثيرًا؛ لأن اللبد هو المال، أو الشيء المتجمع الذي يعلو بعضه بعضًا، كما قال الله -جل وعلا- في شأنهم: كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا أي كادوا يكونون طبقات بعضها يعلو بعض.
فهذا يقول: أهلكت مالا لبدا، يقول هذا على وجه الرياء والسمعة، ومحبة المدحة من الخلق، ورغبة في ثناء الخلق عليه، ولم يهلك هذا المال في الحق، وإنما أهلكه في الباطل، وهذا شأن الكافر؛ لأنه -كما تقدم- الكافر يجمع المال، ويبخل به، فيعاقبه الله -جل وعلا- عليه، وهذا جمع المال، فأنفقه في غير طريقه.
ثم قال -جل وعلا-: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ أيظن أنه لم يره أحد لا خالق ولا مخلوق؟! بلى إن الله -جل وعلا- قد رآه وعلم حاله، وعلم، أو اطلع على سريرته وعلم ما يظنه بربه من الظن السيئ، وعلم -جل وعلا- ما ينفقه من هذه النفقات التي تقع في غير وجهها، كما قال الله -جل وعلا- مبينا اطلاعه على ذلك: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ فأخبر -جل وعلا- أنه يعلم، وأن هذا الظن باطل وسيئ، لا يليق بمقام الربوبية والألوهية لله، جل وعلا.
ثم قال -جل وعلا- مبينا منته على هذا الإنسان: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ فقوله -جل وعلا-: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ يعني: بينا له الطريقين: طريق الخير؛ ليسلكه، وطريق الشر؛ ليبتعد عنه، وهذه الآية كقول الله -جل وعلا-: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا وعبر الله -جل وعلا- في هذه الآية بقوله: "النجدين" عن الطريق؛ لأن النجد هو الطريق في ارتفاع، فلما كان الله -جل وعلا- قد بين طريق الغواية، وبيَّن طريق الهداية بيانًا بحيث لا يخفى على من رزقه الله بصيرة، صار كالطريق المرتفع الذي يرى رؤية واضحة لا غبش فيها.
وهذه الآية تدل على أن الله -جل وعلا- خلق الخلق، ولم يتركهم سدًى كما ذكر الله -جل وعلا- ذلك في سورة القيامة: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى فالله -جل وعلا- ما تركه سدى، وإنما بين له الطريقين: طريق الخير، وطريق الشر.
ثم قال -جل وعلا-: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ أي هذا الإنسان لم يقتحم العقبة، والاقتحام: هو الدخول في الشيء بشدة وعنف، والعقبة هي الطريق الوعر في الجبل، فقوله -جل وعلا-: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ قال بعض العلماء: هذه العقبة عقبة حقيقية في الآخرة، وهي في النار، ولا يمكن له أن يتجاوزها يوم القيامة إلا بالعمل الصالح، الذي يأتي ذكره بعد ذلك، وبعضهم فسرها بأنها عقبة، وأنها جبل في النار، كل يصعده بحسب عمله، والكافر لا يستطيع أن يصعد هذا الجبل، أو هذه العقبة؛ لأنه ليس له عمل.
والمؤمنون تتفاوت أعمالهم، كما أن الناس يتفاوتون في صعود العقبة التي تكون في الدنيا، بحسب ما أوتوا من القوة، فكذلك بحسب ما كان لهم من العمل الصالح، فإن هذه العقبة التي تكون في الآخرة، تكون قدرتهم عليها بحسب ما هم عليه من العمل الصالح.
وذكر بعض المفسرين، وهو الذي عليه الأكثر، أن هذا مثال ذكره الله -جل وعلا- مثال لمجاهدة الإنسان لنفسه والشيطان والهوى في أعمال البر، فإذا غلب نفسه، وهواه والشيطان بالعمل الصالح، وأداه على وجهه...+ طيب قوله: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ بعض العلماء يقول: إنها على جهة المثال كأن الله -جل وعلا- ذكر عن الكافر، ذكر الله -جل وعلا- أن الشيطان والنفس الأمارة بالسوء والهوى هذه عقبة، إذا عمل الإنسان عملًا صالحًا، وأتى بأعمال البر اقتحم هذه العقبة، وإلا لم يقتحمها، وهذا هو الذي عليه أكثر أهل التفسير؛ لأن الله -جل وعلا- بين ذلك بعد، قال الله -جل وعلا-: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ يعني: أن هذه العقبة، أو أن اقتحام العقبة يحصل بإعتاق الرقيق، وهذا من عمل البر.
أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ أي: يطعم في يوم شديد الجوع، يطعم فيه يتيمًا ذا مقربة، يعني: يتيمًا له به قرابة، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ أي: مسكينًا شديد الجوع ليس عنده شيء؛ لأنه كالذي لصق بالتراب من شدة الجوع، وهذا هو اقتحام العقبة الذي ذكره الله -جل وعلا- في هذا.
وفي هذا دلالة على أن أعمال الخير التي يعملها الإنسان، هي التي يحصل بها اقتحام العقبة، سواء كانت عقبة حقيقية في الآخرة، أو كانت مثالًا في الدنيا.
ومن هذه الآية استنبط بعض العلماء: أنه ينبغي للإنسان أن يراعي الأقرب في النفقة قبل الأبعد؛ لأن الله -جل وعلا-: قال: يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ فهذا في القريب، ثم قال: أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ وهذا في البعيد.
وهذا مراعاة الأقرب، وهو الذي دلت عليه النصوص الشرعية الثابتة عن النبي، صلى الله عليه وسلم.
ثم قال -جل وعلا-: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ يعني: أنه ما اقتحم العقبة، إن هذا الإنسان ما اقتحم العقبة، ولا كان من الذين آمنوا، وتواصوا بالصبر، وتواصوا بالمرحمة، فهذا الإنسان قد تخلى عن الإيمان، وتخلى عن التواصي كما أنه لم يقتحم العقبة بفعل البر، فاجتمعت فيه هذه الصفات، أما لو أنه اقتحم العقبة، وآمن بالله -جل وعلا- وتواصى بالصبر مع إخوانه، بمعنى أن المسلم يوصي أخاه المسلم بالصبر على طاعة الله، والصبر على أقدار الله، والصبر عن معاصي الله، وتواصى مع إخوانه بالمرحمة، أي: وصى بعضهم بعضًا بأن يتراحموا فيما بينهم، لو كان كذلك لكان من أصحاب الميمنة؛ لأن هذه الصفات من صفات أصحاب الميمنة؛ قال -تعالى-: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ .
يعني: الذين اقتحموا العقبة بعمل البر، وآمنوا بالله - جل وعلا- وتواصوا بالصبر، وتواصوا بالمرحمة، هم الذين يصيرون يوم القيامة أصحاب الميمنة، وينجون من عذاب الله، ويفوزون برضاه، والميمنة هذه يعني: يكون من أصحاب الميمنة يوم القيامة، الذين ذكرهم الله -جل وعلا- في سورة الواقعة: فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ يعني: وما أدراك ما أصحاب الميمنة وما شأنهم، ثم بين مصيرهم -جل وعلا- بعد ذلك في قوله: وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ إلى آخر الآيات.
وهنا استشكال استشكاله بعض العلماء، وهو أن الله -جل وعلا- قال: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا والإيمان مقدم على العمل، فلا يقبل من أحد عمل إلا بإيمان، وهنا قدم الأعمال قدم فك الرقبة، وقدم الإطعام على الإيمان، ثم جاء بالإيمان، وجاء به بصيغة التراخي ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا .
وقد أجاب العلماء عن هذا بأن هذا من باب الترتيب الذكري، يعني: ثم اذكر يا محمد أنه كان من الذين آمنوا، وبعضهم يقول: إن الله -جل وعلا- جاء بثم الدالة على التراخي؛ ليبين التباعد الكبير بين فك الرقبة والإطعام مقارنة بالإيمان؛ لأن الإيمان هو الأصل، وهناك مسافة كبيرة بين الإيمان وبين الإطعام؛ لأن الإيمان بالله ينبني عليه غيره؛ لأن الإنسان لو ترك الإطعام وفك الرقاب، فهذا لا ينتقض إيمانه، أما لو أطعم وفك الرقاب، وهو ليس بمؤمن فلا يقبل منه.
ومن هذه الآية استنبط العلماء شرطًا من شروط العمل الصالح، وهو الإيمان: شرط من شروط قبول العمل، وهو الإيمان؛ لأن الله -جل وعلا- قال: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا فقال بعض العلماء: هذا يدل على أنه لا بد أن يكون العمل مبنيًا على عقيدة صحيحة، وهو أول شروط قبول العمل، أن يكون مبنيًا على عقيدة صحيحة، وهذا قرره الله -جل وعلا- في مواضع من كتابه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فدل على أن الكافر لو عمل صالحًا لا يقبل منه.
وقال -جل وعلا-: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا وقال -جل وعلا-: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ فجعل الله -جل وعلا- الإيمان شرطًا لقبول العمل.
ثم الشرط الثاني الذي يليه: إخلاص العمل لله؛ لأن الإيمان بالله أعم من إخلاص العمل لله؛ لأن الإنسان قد يكون ذا عقيدة صحيحة، ولكن يقع منه عمل لم يخلص فيه لله -جل وعلا- فلا بد أن يكون مخلصًا لله، كما قال الله -تعالى-: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ .
والشرط الثالث: أن يكون متابعًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه لا طريق إلى الله إلا عن طريق النبي -صلى الله عليه وسلم-: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
فهذه شروط قبول العمل الثلاثة، والآية اشتملت على أحدها، وهو الإيمان بالله -جل وعلا- كما استدل العلماء بهذه الآية على أن رحمة المؤمنين، وتوصية المؤمن بما ينفعه سواء في أمر دينه، أو دنياه هذه من أسباب الفوز برضا الله -جل وعلا- لأن الله -جل وعلا- قال: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ .
ولهذا لمَّا بين -جل وعلا- أوصاف الذين ينجون من الخسارة يوم القيامة، ذكر -جل وعلا- أنهم يتواصون بالصبر: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ .
وبين -جل وعلا- في صفة أوليائه أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين أوجب لهم جنته، ذكر أن بعضهم يرحم بعضًا كما قال -تعالى-: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ولهذا كان من آثار هذه الرحمة فيما بينهم: أن يكون بعضهم ذليلًا لبعض، كما قال الله -جل وعلا-: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ .
ثم قال -جل وعلا-: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ يعني: الذين كفروا بآيات الله وجحدوها وأعرضوا عنها، وعما جاءت به الرسل، هم أصحاب المشأمة يعني: الذين حصل لهم الشؤم، وهذا الشؤم هو الخسارة والعذاب الأليم في الدار الآخرة، وهذا الشؤم جاء نتيجة كفرهم بالله -جل وعلا- وعصيانهم لأنبياء الله ورسوله.
ثم قال -جل وعلا-: عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ فقوله: "مؤصدة" يعني: أن النار يوم القيامة تطبق عليهم، وتغلق، فلا يستطيعون الخروج منها؛ لأنهم خالدون مخلَّدون في النار، كما تقدم بيان ذلك عند قوله -جل وعلا-: لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا .
[right]