تفسير سورة الانشقاق
بسم الله الرحمن الرحيم إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا
--------------------------------------------------------------------------------
هذه سورة الانشقاق، بيّن الله -جل وعلا- فيها شيئا من أهوال يوم القيامة؛ فقال الله -جل وعلا-: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وهو معنى قوله: إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ وقد تقدم ذلك.
ثم قال -جل وعلا-: وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ أي: أن السماوات تستمع إلى ربها -جل وعلا-، وتصغي، وتستجيب لما أمرها -جل وعلا- فتنشق وتذهب وتزول.
ثم قال -جل وعلا-: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ يعني: أن الأرض يوم القيامة تمد، فلا يكون فيها نتوء ولا اعوجاج؛ كما قال الله -جل وعلا-: فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا بل هي ممتدة مستقيمة، ليس فيها عروج ولا ارتفاع ولا انخفاض، بل هي شيء واحد، وقد جاء في حديث على بن الحسين -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إذا كان يوم القيامة، فإن الأرض تمد مد الأديم يعني: مد الجلد، أورده الحافظ بن كثير، وهذا حديثا ضعيف لا يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لإرساله.
ثم قال: -جل وعلا-: وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ أي: أن الأرض يوم القيامة تخرج ما في بطنها من الأموات؛ لبعثهم إلى الله -جل وعلا-، وتتخلى عنهم؛ لأنه في الدنيا كانت هذه الأرض يجد فيها العبد -أحيانا- ملجأ ومهربا، ويمشي عليها، ويستقر، ويبني، وينتفع بها، لكن إذا كان يوم القيامة فإن الأرض تتخلى عنه، فلا يستطيع أن ينتفع منها بشيء، وإنما تلقى هذه الأجساد، وتخرجهم على باطنها؛ لحشرهم إلى الله -جل وعلا-.
ثم قال -جل وعلا-: وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ أي: أن هذه الأرض تصغي إلى الله -جل وعلا-، وتستمع أمره -جل وعلا-، وحق لها ذلك؛ لأن الله -جل وعلا- هو مدبر السماوات والأرض.
ثم قال -جل وعلا-: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ يعني: أن الإنسان يسعى في هذه الدنيا، وهذا السعي سيلاقيه وسيوافى به يوم القيامة، سيلاقيه عند الله -جل وعلا-، يلاقي هذا العمل؛ إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، ولهذا قسم الله -جل وعلا- الناس بعد ذلك إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير.
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا أُعْطِيَ العبد يوم القيامة كتابه بيمينه فذلك دليل على أنه من أهل الجنة؛ ولهذا بيَّنَ الله -جل وعلا- فرح المؤمن واستبشاره بذلك في سورة الحاقة: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ يعني: خذوا اقرءوا كتابيه إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ .
قال الله -جل وعلا- في هذه الآية: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الحساب، لما ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الله -جل وعلا- يُدْنِي العبد يوم القيامة -العبد المؤمن- فيضعه تحت كَنَفِه ويقرره بذنوبه، ثم إذا أقرّ وظن أنه هلك، قال الله -جل وعلا-: قد سترتها عليك في الدنيا، وهاأنا أغفرها لك اليوم .
عائشة -رضي الله عنها- لما سمعت هذه الآية: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، وقالت: ألم يقل الله -جل وعلا- فسوف يحاسب حسابا يسيرا؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: إنما ذلك العرض .
فالحساب اليسير المراد به في هذه الآية العرض على الله -جل وعلا-، فيُعْرَض العبد على الله -جل وعلا- العبد المؤمن، فيضعه -جل وعلا- تحت كَنَفِه، ويقرره بذنوبه، ثم يغفرها -جل وعلا- له.
قال الله -جل وعلا-: وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا أي: إلى أهله الذين أعدهم الله -جل وعلا- له في الجنة، سواءً كانوا من أهله الذين كانوا في الدنيا معه ثم كانوا من أهل الجنة يوم القيامة؛ أو أهل الجنة -أيضا- الذين ينشئهم الله -جل وعلا- لعباده المؤمنين في دار النعيم، فكلهم داخلون في هذه الآية؛ لأن العبد المؤمن إذا مات على الإيمان، ومات أهله وذريته كذلك، جمعهم الله -جل وعلا- في جنات النعيم.
كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ .
وكذلك الله -جل وعلا- ينشئ لعبده أزواجا وأهلا في الجنة، سواء كان هذا الإنشاء إنشاءً جديدا أو إنشاء في الأوصاف؛ لأن أهل الجنة يوم القيامة ليسوا كأهل الدنيا؛ فالمرأة إذا جمعها الله -جل وعلا- بزوجها من أهل الدنيا في الآخرة تتبدل أوصافها وتتغير، وكذلك العبد في الدنيا إذا جمع الله -جل وعلا- المرأة إلى زوجها بالآخرة تكون أوصاف زوجها هذه متغيرة ومتبدلة، وكذلك الله -جل وعلا- ينشئ للعبد المؤمن أزواجا في الآخرة ينقلب إليهن من الحُور العِين، وكل ذلك داخل في هذه الآية، في قوله -جل وعلا-: وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا .
ثم قال -جل وعلا-: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا يعني: أن من أُعْطِيَ كتابه وراء ظهره فسوف يدعو بالهلاك؛ لأن الهلاك متحقق له لا محالة.
وَيَصْلَى سَعِيرًا يعني: أنه يُعَذَّب في نار جهنم.
وقد قال الله -جل وعلا- في سورة الحاقة: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ .
قال العلماء -رحمهم الله-: إن العبد الكافر الفاجر الذي يأخذ كتابه بشماله يُعطَى هذا الكتاب بشماله من وراء ظهره؛ لأن يده اليمنى تكون مغلولة إلى عنقه، ويُعْطَى كتابه بشماله وراء ظهره، وذلك دليل وعلامة له على أنه من أهل النار، ولهذا قال الله -جل وعلا-: وَيَصْلَى سَعِيرًا .
ثم بيَّنَ -جل وعلا- ما الذي أوصله إلى هذه النار، وما الذي فضحه على رءوس الأشهاد، وما الذي أخزاه يوم الدين، قال الله -جل وعلا-: إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا يعني: أنه كان في أهله فَرِحًا فرحَ بطرٍ وأشر، يظن أن الساعة لا تقوم، وأن النعيم والعذاب إنما هو في الدنيا، فهو مسرور في أهله في هذه الحياة الدنيا سرورا أَوْجَبَ له الخلود في النار يوم القيامة، وإلا فالسرور في ذاته ليس مذموما؛ وإنما السرور والفرح الذي ينتج البَطَرَ والأشر والإعراض عن دين الله وشرعه كما قال الله -جل وعلا- لقارون: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ .
وإلا فالمؤمن يفرح ويُسَرّ في هذه الحياة الدنيا، وقد يُعَجِّل له الله -جل وعلا- بشائر الخير في الدنيا، ولكن هذا الفرح فرح ليس فيه مذمَّة على المؤمن؛ لأنه لا يخرجه إلى معصية الله -جل وعلا- أو الكفر بآياته.
وأما سرور أولئك وفرحهم فإنه فرح أخرجهم عن طاعة الله إلى معصية الله، وعن الإيمان به إلى الكفر به، والكفر إلى ما جاءت به الأنبياء والرسل.
ثم قال -جل وعلا-: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ يعني: أن هذا الكافر ظن أنه لن يرجع إلى ربه، ولن ينقلب إليه، وأن المصير ليس إلى الله جل وعلا.
ثم قال -جل وعلا-: بَلَى يعني: سيكون المصير إلى الله، والمرجع إليه -جل وعلا- كما بينا ذلك في ما تقدم.
قال -جل وعلا-: إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا يعني: أن الله -جل وعلا- يعلم هذا العبد، ويعلم سره ونجواه، ويكتب أعماله ويحصيها عليه.
بسم الله الرحمن الرحيم إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا
--------------------------------------------------------------------------------
هذه سورة الانشقاق، بيّن الله -جل وعلا- فيها شيئا من أهوال يوم القيامة؛ فقال الله -جل وعلا-: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وهو معنى قوله: إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ وقد تقدم ذلك.
ثم قال -جل وعلا-: وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ أي: أن السماوات تستمع إلى ربها -جل وعلا-، وتصغي، وتستجيب لما أمرها -جل وعلا- فتنشق وتذهب وتزول.
ثم قال -جل وعلا-: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ يعني: أن الأرض يوم القيامة تمد، فلا يكون فيها نتوء ولا اعوجاج؛ كما قال الله -جل وعلا-: فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا بل هي ممتدة مستقيمة، ليس فيها عروج ولا ارتفاع ولا انخفاض، بل هي شيء واحد، وقد جاء في حديث على بن الحسين -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إذا كان يوم القيامة، فإن الأرض تمد مد الأديم يعني: مد الجلد، أورده الحافظ بن كثير، وهذا حديثا ضعيف لا يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لإرساله.
ثم قال: -جل وعلا-: وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ أي: أن الأرض يوم القيامة تخرج ما في بطنها من الأموات؛ لبعثهم إلى الله -جل وعلا-، وتتخلى عنهم؛ لأنه في الدنيا كانت هذه الأرض يجد فيها العبد -أحيانا- ملجأ ومهربا، ويمشي عليها، ويستقر، ويبني، وينتفع بها، لكن إذا كان يوم القيامة فإن الأرض تتخلى عنه، فلا يستطيع أن ينتفع منها بشيء، وإنما تلقى هذه الأجساد، وتخرجهم على باطنها؛ لحشرهم إلى الله -جل وعلا-.
ثم قال -جل وعلا-: وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ أي: أن هذه الأرض تصغي إلى الله -جل وعلا-، وتستمع أمره -جل وعلا-، وحق لها ذلك؛ لأن الله -جل وعلا- هو مدبر السماوات والأرض.
ثم قال -جل وعلا-: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ يعني: أن الإنسان يسعى في هذه الدنيا، وهذا السعي سيلاقيه وسيوافى به يوم القيامة، سيلاقيه عند الله -جل وعلا-، يلاقي هذا العمل؛ إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، ولهذا قسم الله -جل وعلا- الناس بعد ذلك إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير.
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا أُعْطِيَ العبد يوم القيامة كتابه بيمينه فذلك دليل على أنه من أهل الجنة؛ ولهذا بيَّنَ الله -جل وعلا- فرح المؤمن واستبشاره بذلك في سورة الحاقة: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ يعني: خذوا اقرءوا كتابيه إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ .
قال الله -جل وعلا- في هذه الآية: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الحساب، لما ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الله -جل وعلا- يُدْنِي العبد يوم القيامة -العبد المؤمن- فيضعه تحت كَنَفِه ويقرره بذنوبه، ثم إذا أقرّ وظن أنه هلك، قال الله -جل وعلا-: قد سترتها عليك في الدنيا، وهاأنا أغفرها لك اليوم .
عائشة -رضي الله عنها- لما سمعت هذه الآية: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، وقالت: ألم يقل الله -جل وعلا- فسوف يحاسب حسابا يسيرا؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: إنما ذلك العرض .
فالحساب اليسير المراد به في هذه الآية العرض على الله -جل وعلا-، فيُعْرَض العبد على الله -جل وعلا- العبد المؤمن، فيضعه -جل وعلا- تحت كَنَفِه، ويقرره بذنوبه، ثم يغفرها -جل وعلا- له.
قال الله -جل وعلا-: وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا أي: إلى أهله الذين أعدهم الله -جل وعلا- له في الجنة، سواءً كانوا من أهله الذين كانوا في الدنيا معه ثم كانوا من أهل الجنة يوم القيامة؛ أو أهل الجنة -أيضا- الذين ينشئهم الله -جل وعلا- لعباده المؤمنين في دار النعيم، فكلهم داخلون في هذه الآية؛ لأن العبد المؤمن إذا مات على الإيمان، ومات أهله وذريته كذلك، جمعهم الله -جل وعلا- في جنات النعيم.
كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ .
وكذلك الله -جل وعلا- ينشئ لعبده أزواجا وأهلا في الجنة، سواء كان هذا الإنشاء إنشاءً جديدا أو إنشاء في الأوصاف؛ لأن أهل الجنة يوم القيامة ليسوا كأهل الدنيا؛ فالمرأة إذا جمعها الله -جل وعلا- بزوجها من أهل الدنيا في الآخرة تتبدل أوصافها وتتغير، وكذلك العبد في الدنيا إذا جمع الله -جل وعلا- المرأة إلى زوجها بالآخرة تكون أوصاف زوجها هذه متغيرة ومتبدلة، وكذلك الله -جل وعلا- ينشئ للعبد المؤمن أزواجا في الآخرة ينقلب إليهن من الحُور العِين، وكل ذلك داخل في هذه الآية، في قوله -جل وعلا-: وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا .
ثم قال -جل وعلا-: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا يعني: أن من أُعْطِيَ كتابه وراء ظهره فسوف يدعو بالهلاك؛ لأن الهلاك متحقق له لا محالة.
وَيَصْلَى سَعِيرًا يعني: أنه يُعَذَّب في نار جهنم.
وقد قال الله -جل وعلا- في سورة الحاقة: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ .
قال العلماء -رحمهم الله-: إن العبد الكافر الفاجر الذي يأخذ كتابه بشماله يُعطَى هذا الكتاب بشماله من وراء ظهره؛ لأن يده اليمنى تكون مغلولة إلى عنقه، ويُعْطَى كتابه بشماله وراء ظهره، وذلك دليل وعلامة له على أنه من أهل النار، ولهذا قال الله -جل وعلا-: وَيَصْلَى سَعِيرًا .
ثم بيَّنَ -جل وعلا- ما الذي أوصله إلى هذه النار، وما الذي فضحه على رءوس الأشهاد، وما الذي أخزاه يوم الدين، قال الله -جل وعلا-: إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا يعني: أنه كان في أهله فَرِحًا فرحَ بطرٍ وأشر، يظن أن الساعة لا تقوم، وأن النعيم والعذاب إنما هو في الدنيا، فهو مسرور في أهله في هذه الحياة الدنيا سرورا أَوْجَبَ له الخلود في النار يوم القيامة، وإلا فالسرور في ذاته ليس مذموما؛ وإنما السرور والفرح الذي ينتج البَطَرَ والأشر والإعراض عن دين الله وشرعه كما قال الله -جل وعلا- لقارون: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ .
وإلا فالمؤمن يفرح ويُسَرّ في هذه الحياة الدنيا، وقد يُعَجِّل له الله -جل وعلا- بشائر الخير في الدنيا، ولكن هذا الفرح فرح ليس فيه مذمَّة على المؤمن؛ لأنه لا يخرجه إلى معصية الله -جل وعلا- أو الكفر بآياته.
وأما سرور أولئك وفرحهم فإنه فرح أخرجهم عن طاعة الله إلى معصية الله، وعن الإيمان به إلى الكفر به، والكفر إلى ما جاءت به الأنبياء والرسل.
ثم قال -جل وعلا-: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ يعني: أن هذا الكافر ظن أنه لن يرجع إلى ربه، ولن ينقلب إليه، وأن المصير ليس إلى الله جل وعلا.
ثم قال -جل وعلا-: بَلَى يعني: سيكون المصير إلى الله، والمرجع إليه -جل وعلا- كما بينا ذلك في ما تقدم.
قال -جل وعلا-: إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا يعني: أن الله -جل وعلا- يعلم هذا العبد، ويعلم سره ونجواه، ويكتب أعماله ويحصيها عليه.