تفسير سورة النازعات
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم : وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى
--------------------------------------------------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في هذه السورة سورة النازعات، أقسم الله -جل وعلا- بملائكته، كل ملك بالصفة التي يختص بها، فأقسم الله - جل وعلا بالنازعات غرقًا.
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا هم الملائكة الذين يخرجون أرواح الكفار بشدة، ويغرقون في أجسادهم؛ لإخراجها؛ لأن الكافر إذا جاءه الموت وبشر بعذاب الله -جل وعلا - تفرقت روحه في جسده، كما صح ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث البراء بن عازب، فإذا تفرقت هذه الروح في الجسد غاصت عليها الملائكة لتخرجها من أقاصي جسده، وتخرج هذه الروح بقوة وعنف.
ولهذا ثبت في حديث البراء بن عازب -رضي الله عنه - أنها تخرج كما يخرج السفود من الصوف المبلول، والسفود هو الحديدة التي يشوى عليها.
وقوله -جل وعلا -: وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا هؤلاء هم الملائكة الذين ينشطون أرواح المؤمنين نشطًا فيخرجونها بسرعة وخفة، وهذا كما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم - في حديث البراء أن المؤمن إذا كان في السياق وبشر برحمة الله ورضوانه، وقيل لروحه: يا أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، وروح وريحان، ورب غير غضبان، فإنها تسيل كما يسيل القطر من فِيّ السقاء يعني: تخرج بخفة وراحة على المؤمن.
وقد جاء في كتاب الله -جل وعلا - ما يدل على أن الملائكة هم الذين يقبضون أرواح بني آدم، كما قال الله -جل وعلا - في سورة الأنعام: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ .
وفي سورة السجدة: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ .
وقال -جل وعلا -: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ .
وأخبر -جل وعلا - في آيات أخرى عن إخراج الملائكة لأرواح الكفار وتعذيبهم بذلك، كما قال الله -جل وعلا - في سورة الأنعام: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ .
وقال -جل وعلا- في " سورة الأنفال ": وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ .
وأما حال الملائكة مع المؤمنين حال خروج أرواحهم فكما قال الله تعالى في " سورة فصلت ": إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ .
فهي تبشرهم مما أمامهم ، وإذا بشرتهم بما أمامهم أحبوا لقاء الله -جل وعلا - فأحب الله لقاءهم ، كما ثبت ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ، ثم تطمئنهم الملائكة ألا تخافوا يعني مما أمامكم؛ لأن الله -جل وعلا- قد قضى للمؤمنين بالأمن يوم القيامة: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ وقال -جل وعلا-: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
وكذلك تطمئنهم الملائكة ألا يحزنوا على ما تركوه وراءهم؛ لأن ما أمامهم عند الله - جل وعلا- من النعيم خير من ذلك.
وقوله: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ يعني: أن الله -جل وعلا- يجعل الملائكة أولياء للمؤمنين في الدنيا ، يسددونهم ويهدونهم إلى طرق الخير ، وفي الآخرة يهدونهم إلى جنات النعيم ، كما قال الله -جل وعلا-: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
ثم قال الله -جل وعلا-: وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا هؤلاء هم الملائكة أقسم الله -جل وعلا- بهم بصفة من صفاتهم ، وهي أنهم يسبحون بين السماء والأرض ، ينقلون أمر الله -جل وعلا- إلى خلقه ، كما تسبح الطير في الهواء.
قال - جل وعلا-: فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا أي أن الملائكة قد سبقوا إلى الطاعة والإيمان ، وهم أيضا يسرعون ويسابقون إلى طاعة الله تعالى وامتثال أمره.
كما قال الله -جل وعلا- في الأنبياء في " سورة الأنبياء ": بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وهذا رد على المشركين الذين أخبر الله عنهم أنهم: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا فقال سبحانه: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ إلى آخر الآيات. ..
وقال -جل وعلا- مبينا امتثالهم لأمره -سبحانه وتعالى-: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ .
ثم قال -جل وعلا-: فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا وهم أيضا الملائكة؛ لأنهم يدبرون الأمر من السماء إلى الأرض بإذن الله، يدبرون أو يأتون من عند الله -جل وعلا- بآياته الشرعية إلى الأنبياء والمرسلين، ويدبرون هذا الكون بما أمرهم الله -جل وعلا- به من آياته الكونية، فكل ملك من هؤلاء الملائكة قد أوكل الله -جل وعلا- إليه أمرا.
وهذه الآية كما قال الله -جل وعلا- في " سورة الذاريات ": فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا يعني: أنها تنزل بأمر الله -جل وعلا-، وهذا الأمر مقسم على الملائكة: منهم من هو موكل بالقطر، ومنهم من هو موكل بالموت، ومنهم من هو موكل بالوحي ، إلى غير ذلك. ..
ومثله قول الله -جل وعلا- في " سورة المرسلات ": فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا يعني: أن هؤلاء الملائكة ينزلون بما يفرق بين الحق والباطل ، وهو آيات الله -جل وعلا-. فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا يعني: أنها تنزل بأمر الله -جل وعلا- على المرسلين إعذارا للناس وإنذارا لهم.
وقال -جل وعلا- في " سورة القدر ": تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ يعني: أن الملائكة تنزل ليلة القدر بكل أمر سلام من عند الله -جل وعلا- في الليلة المباركة التي يقدر الله -جل وعلا- فيها آجال الخلق وأرزاقهم وأعمارهم وما يكون في العام ، كما قال الله -جل وعلا- في " أوائل سورة الدخان ": إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ .
وهذا القسم الذي أقسم الله -جل وعلا- لم يذكر رب العالمين ما أقسم عليه ، فإنه -جل وعلا- إنما أقسم ولم يذكر المقسم عليه ، والمقسم عليه محذوف لم يذكر هاهنا ، وحذفه -يعني حذف جواب القسم- كثير في كتاب الله -جل وعلا-، وهذا جائز في لغة العرب إذا دل الدليل على ذلك ، وقد دل الدليل هاهنا على أن المقسم عليه هو بعث العباد ونشرهم؛ لأن الله -جل وعلا- قال حكاية عنهم: أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً فأقسم الله -جل وعلا- على البعث والنشور.
وقد أقسم الله -جل وعلا- على بعث الخلق وجزاءهم وحسابهم في آيات كثيرة كما قال الله -جل وعلا-: وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا إلى قوله -جل وعلا-: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ وقوله -جل وعلا-: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ وكما قال تعالى في" آخر الحجر": فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ .
وكذلك في" سورة الطور" وفي" سورة الذاريات " وغيرها من السور كثير: أقسم الله -جل وعلا- على بعث الخلق ، وأمر الله -جل وعلا- في آيات أخرى -وهي ثلاث آيات ليس في القرآن غيرها- أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يقسم على تحقق البعث والنشور.
قال الله -جل وعلا- في" سورة التغابن ": زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وقال -جل وعلا- في " سورة يونس ": وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ يعني: البعث ، قال الله -جل وعلا-: قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ وفي" أول سورة سبأ ": وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ .
فهذه ثلاث آيات أمر الله -جل وعلا- فيها نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يقسم على البعث والنشور ، والله -جل وعلا- قد أقسم على هذا البعث والنشور -كما تقدم-.
ثم قال -جل وعلا-: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ هذا بيان للحال التي تكون آخر الدنيا من حصول نفختين: نفخة الصعق والفزع، يأمر الله -جل وعلا- إسرافيل فينفخ في الصور؛ فيفزع من في السماوات والأرض ويصعقون ، إلا من شاء الله -جل وعلا- من الملائكة والشهداء ، ثم يأمر -جل وعلا- إسرافيل بعد موت الخلائق بالنفخة الأولى ، أن ينفخ في الصور مرة أخرى للقيام لرب العالمين والبعث والنشور؛ فقوله -جل وعلا-: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ يعني بها: نفخة الفزع؛ لأن الرجف هو الاضطراب الشديد، ولا ريب أنه إذا نفخ في الصور حصل للخلق وجل واضطراب وخوف عظيم ، بل يحصل ذلك للسماوات والأرض والجبال وكل الخلائق التي قدر الله -جل وعلا- أن تفزع من هذه النفخة.
وقوله -جل وعلا-: تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ يعني: تتبعها النفخة الأخرى وهي نفخة الصعق ، وسميت رادفة لأنها تردف الأولى ، كما يقال: " فلان رديف فلان ، أو: ردف فلان " يعني: أنه يتبعه ، ويقال: " ترادف الأمر " بمعنى: تتابع ، فهاتان النفختان تكون الثانية تابعة للأولى وتالية لها ، وقد سبق لنا في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن بينهما أربعين يوما أو أربعين شهرا أو أربعين سنة سئل أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه- عن ذلك فلا يدري؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم-: " أخبر أن بينهما أربعين" فلا يدرى: هل هي أربعون سنة أو أربعون شهرا أو أربعون يوما ؟
وكلها سواء كانت أربعين يوما أو أربعين شهرا أو أربعين يوما، فإن هاتين النفختين كائنتان ، كما أخبر الله -جل وعلا- بذلك ، وهاتان النفختان أخبر الله -جل وعلا- عنهما في مواضع من كتابه ، كما قال الله -جل وعلا- في" سورة يس ": وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ يعني: وهم يختصمون ويتشاجرون في أصواتهم: فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ وهذا في النفخة الأولى.
ثم قال -جل وعلا- في النفخة الثانية: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ وقال -جل وعلا- عن هاتين النفختين في" سورة الزمر": وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ .
ثم قال -جل وعلا-: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ - قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ يعني: أن القلوب يصيبها الخوف والهلع والقلق من شدة ما ترى من أهوال يوم القيامة ، ولهذا من شدة هذه الأهوال؛ تبلغ القلوب الحناجر فلا تخرج ولا تدخل، ولا يستطيع أهلها أن يتكلموا ، كما قال الله -جل وعلا-: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ وقوله كَاظِمِينَ يعني: أنهم مكروهون ممتلئون خوفا وهما وحزنا؛ ونتيجة ذلك: أنهم لا يستطيعون الكلام.
ثم قال -جل وعلا-: أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ يعني: أن أبصار أهل هذه القلوب خاشعة ، يعني: ذليلة حقيرة ، وهذه أبصار الذين كفروا بالله -جل وعلا- وكفروا بالبعث والنشور؛ لأن هذه الآية أو سياق هذه الآيات وارد في شأنهم كما قال الله -جل وعلا- في" سورة القمر ": فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ يعني: إلى شيء منكر فظيع ، خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ .
وقال -جل وعلا- في" آخر المعارج ": يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ يعني: إلى علم أو إلى غاية يسرعون إليها ، خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ .
وقال -جل وعلا- في" سورة إبراهيم ": وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ يعني: مسرعين رافعي رءوسهم ، لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ يعني: لا ترجع إليهم أبصارهم ، وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ يعني: قلوبهم في فزع ووجل وخوف شديد ، كما في الآية الأخرى: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ .
ثم قال -جل وعلا-: يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ يعني: أن الكفار ينكرون البعث والنشور ويستبعدون وقوعه ، وقوله في هذه الآية: أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ فسرها بعض العلماء بأنها الحفرة وهي القبر ، ومعنى الآية: أئنا لمردودون في قبورنا أحياء بعد موتنا.
وقال بعض العلماء: إن قوله تعالى: الْحَافِرَةِ المراد بذلك: أول الأمر وابتداؤه ، يعني: أئنا لمردودون إلى أول أمرنا وهي الحياة الأولى، وهذا أيضا إنكار للبعث كما قال تعالى: وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا وعلى كلا التفسيرين فهم ينكرون البعث والنشور ، وهذا الإنكار منهم على سبيل الاستبعاد والسخرية والاستهزاء ، كما بين الله -جل وعلا- ذلك في آيات كثيرة كما في قوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ يعني: إذا تمزقتم في قبوركم وذهبتم أشلاء؛ أئنكم لفي خلق جديد ؟! يعني: مبعوثون خلقا جديدا.
أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ يعني: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إما أن يكون كاذبا على الله -جل وعلا- ، وإما أن يكون به جنون، قال الله -جل وعلا- رداً عليهم: بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ .
وقال-جل وعلا- في" سورة المؤمنون " حكاية عنهم أنهم قالوا: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ وقد تقدمت هذه الآيات ونظائرها في تفسير " سورة النبأ ".
وقوله -جل وعلا-: أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً يعني: إذا كنا عظاما بالية يدخل فيها الهواء كما قال ذلك ابن عباس -رضي الله عنه-: أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ يعني: إنا إن رجعنا إلى الحياة مرة أخرى وبعثنا؛ إنا لنحن الخاسرون ، وتكون تلك الرجعة التي رجعناها خسارة علينا؛ لأننا نكون حينئذ قد كذبنا بما يجب التصديق به ، وقد أخبر الله -جل وعلا- عنهم أنهم قد تحققت لهم الخسارة بتكذيبهم بلقاء الله -جل وعلا- سواء منهم من مات ومن كان حيا يكذب بلقاء الله؛ فالخسارة متحققة له -لا ريب في ذلك- إن مات عليه.
قال الله -جل وعلا- مبينا تحقق هذه الخسارة: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ وقال -جل وعلا- في" سورة يونس" قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ .
ثم قال -جل وعلا-: فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ أى: ليس الحال والأمر إلا أن تكون زجرة واحدة ، وهى النفخ في الصور للبعث يكون مرة واحدة وليس مرتين ولا أكثر من ذلك ، وإنما هو مرة واحدة: فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ أى: إذا هم على وجه الأرض مبعوثون لرب العالمين، وقوله -جل وعلا-: بِالسَّاهِرَةِ المراد بها: الأرض، والأرض سميت ساهرة لأنها كالانسان الذي يذهب عنه النوم ، فالذى يذهب عنه النوم يظل متحركا لا تنقطع حركته ، وكذلك الأرض تمد النبات ولا ينقطع إمدادها عن النبات ليلا ولا نهارا فكانت كالانسان الذي يسهر ولا ينقطع عن الحركة ، وقال بعض العلماء: إنها سميت بالساهرة لأن النوم والسهر إنما يكونان عليها ، والله -جل وعلا- أعلم ، ولكن المراد بالساهرة هاهنا: هي الأرض التي يبعث الله -جل وعلا- العباد عليها.
ثم قال -جل وعلا-: هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى هذا شروع في بيان قصة موسى مع فرعون ، وهذا من باب التسلية لنبينا -صلى الله عليه وسلم- وتثبيت قلبه على ما يلقاه من أذى المشركين؛ ولهذا كان غالب قصص الأنبياء مع أقوامهم إنما تقع في السور المكية ، وهذه السورة منها ، فهذه الآيات يخبر الله -جل وعلا- فيها نبيه -صلى الله عليه وسلم- بقصة موسى -كليم الرحمن- مع عدو الله فرعون ، وهذه القصص التي يتلوها أو التي يذكرها رب العالمين في القرآن ، هذه القصص بين الله -جل وعلا- فائدتها في آخر " سورة هود ".
قال الله -جل وعلا- بعد أن ذكر قصصا لبعض أنبيائه مع قومهم: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ أى أن هذه القصص فيها تثبيت لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- ، كما أن هذه القصص المقصوصة على نبينا -صلى الله عليه وسلم- هي قصص حق ليست قصص كذب ولا تخييل ولا تصور، وإنما هي قصص حق وصدق وموعظة وذكرى للمؤمنين ، أي أن فيها عظة يرتدع بها العاصون والكافرون، ويتذكر بها المؤمنون ، وهذه الآية كما قال الله -جل وعلا- في" آخر سورة يوسف ": لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ .
ثم إن الله -جل وعلا- قد ذكر قصة موسى هنا ، وكرر ذكر هذه القصة في مواضع كثيرة من كتابه: في" الأعراف " وفى" الشعراء " وفى" طه " وفى " القصص " وفى" النمل " وفى غيرها من السور ، وهذا التكرار في قصة موسى وغيره من بعض الأنبياء أو بعض القصص ، ذكر باب العلماء أن له حكمة وهى: إظهار عجز المشركين عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن؛ لأن الله -جل وعلا- يكرر هذه القصص ويذكر في موضع من الزيادة ما لا يذكره في آخر ، ويبدل كلمة بأخرى أو يضع كلمة مكان أخرى، ويذكر القصص بأساليب مختلفة، ويتحدى المشركين أن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن؛ ومع ذلك يعجزون عن الإتيان بمثل ذلك مع اختلاف الأساليب، ففيه إظهار عجز المشركين على أن يأتوا بمثل هذا القرآن؛ لأن الله -جل وعلا- تحداهم بذلك كما في" سورة هود " و " سورة يونس " ، و " سورة البقرة ".
وبعض القصص لا يذكرها الله -جل وعلا- إلا مرة واحدة، وقد التمس بعض العلماء الحكمة في ذلك، فقال بعض العلماء: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا تلى عليهم قصة واحدة ولم تكرر في هذا القرآن؛ فكأنه يتحداهم أيضا ويقول لهم: إن كان هذا الكلام من تلقاء نفسى؛ فهذه قصة جئتها فأتوا بهذه القصة بأسلوب آخر ووجه آخر ، يكون مماثلا ومناسبا للأساليب التي يذكرها الله -جل وعلا-للقصص الأخرى التي تتكرر ، والله -جل وعلا- أعلم وأحكم فيما يذكره -جل وعلا - من هذه القصص.
فهذا بعض الجواب الذي ذكره بعض العلماء ، فإن كان الأمر كذلك؛ فذلك من فضل الله -جل وعلا- على خلقه ، إن لم تكن تلك الحكمة كذلك؛ فالعبد المؤمن ليس له إلا التسليم بحكم الله وحكم رسوله -صلى الله عليه وسلم- ، والتصديق بأخبارهما سواء ظهرت الحكمة له أو لم تظهر له الحكمة؛ لأن العبد لا يثبت قدمه على الإسلام إلا بأن يسلم لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- ، ويستسلم لله وحده.
ذكر الله -جل وعلا- قصة موسى فقال سبحانه: هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى - الوادي المقدس: هو الوادي المبارك المطهر ، و: طُوًى هذا اسم لوادي ببلاد الشام كلم الله -جل وعلا- فيه نبيه موسى -عليه الصلاة والسلام- فأمره الله -جل وعلا- في هذه الآية أن يأتي الوادي المقدس بـ " طوى " ، وهذا النداء من رب العالمين لنبيه وكليمه موسى -عليه السلام- بين الله -جل وعلا- صفته في" أوائل سورة النمل ".
قال الله -جل وعلا-: فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ موسى -عليه السلام- لما قضى ما بينه وبين شعيب فأتم له الحجج التي اتفق عليها موسى مع شعيب ، سار شعيب بأهله وكانت الليلة ليلة مظلمة ممطرة باردة؛ فتاه موسى وضل الطريق هو وأهله ، فبينما هو كذلك إذ رأى نارا ، قال كثير من العلماء: إن هذه النار ليست نارا حقيقة وإنما هي نور.
فلما رأى موسى هذه النار ، قال بعض العلماء: لم يرها -حتى أهله-: قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا يعني: رأى نارا وأخبرهم أنه سيأتي هذه النار ليأتي لهم منها بقطعة يستضيئون بها ويستدفئون بها ، أو يجد على هذه النار من يهديه إلى الطريق الصحيح التي يسير عليها ليصل إلى مصر بعد خروجه من مدين ، قال الله -جل وعلا- في" سورة القصص ": فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ إلى آخر الآيات. ..
فموسى -عليه السلام- لما جاء إلى هذا الوادي قضى الله -جل وعلا- إليه الأمر وأوحى إليه ، وأول شيء أوحى إليه رب العالمين: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى وهذا يدل على أن الواجب ، أو يدل على أن أول واجب على الإنسان أن يعلمه هو: أن يعلم توحيد الله -جل وعلا- وأن يعمل به.
وهذه الآيات ذكرها الله -جل وعلا- في قوله: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وفي قوله: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ فالله -جل وعلا- قد نادى موسى -عليه السلام- ، وهذا النداء بصوت وحرف وهو كلام الله -جل وعلا-؛ لأن النداء لا يكون إلا بصوت وحرف ، وقد أثبت الله -جل وعلا- نداءه لموسى في غير آية -كما تقدم-.
فالله -جل وعلا- نداه وكلمه ، بل أخبر الله -جل وعلا- أنه كلم موسى -عليه السلام- في قوله في" سورة الأعراف ": قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي وهذا معنى قوله -جل وعلا- قال: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى اختاره يعني: اصطفاه، اصطفاه -جل وعلا- بهذا الكلام وبالرسالة.
بل الله -جل وعلا- أكد هذا الكلام تأكيدا في قوله -جل وعلا-: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا فهذا من أدلة أهل السنة على أن الله -جل وعلا- يتكلم، وعلى أن هذه الصفة ثابتة لله -جل وعلا- ، كما أنهم يستدلون به على أن الله -جل وعلا-يتكلم بصوت وحرف؛ لأن النداء لا يكون إلا بصوت وحرف.
قال الله -جل وعلا- في هذه الآية: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى وقد تقدم معنى: أن الطغيان هو تجاوز الحد بالمعصية ، وفرعون -لعنه الله- تجاوز الحد وطغى واستكبر ، وتكبر وعلا في الأرض ، كما أخبر الله -جل وعلا- عن طغيانه في آيات كثيرة.
قال الله -جل وعلا- في" أوائل القصص ": إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وفي" سورة يونس ": وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ وفي" سورة البقرة ": وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ بل طغيانه تجاوز وتعدى حتى قال كما أخبر الله -جل وعلا- في هذه الآية فقال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى يعني أنه ليس هناك إله غيره ، وأن الآلهة التي تعبد من دونه -يعني أن الآلهة الأخرى- إنما هي دون فرعون؛ فهذا فيه إنكار لألوهية الله -جل وعلا-وربوبيته ، وهذه الآية كقوله -جل وعلا- إخبارا عن فرعون أنه قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ففرعون طغى وتجاوز الحد وادعى الربوبية والألوهية من دون الله -جل وعلا-.
وهذا الادعاء هو كاذب فيه وليس بصادق؛ لأنه يوقن يقينا جازما أن هناك ربا للخلائق هو المستحق للعبادة ، وقد أخبر الله -جل وعلا- عنه في" سورة النمل " في قوله -جل وعلا-: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا .
وقال -جل وعلا- في" آخر الإسراء " أن موسى -عليه السلام- قال له: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا يعني: موسى يخاطب فرعون يقول: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ يعني: الآيات التسع إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ هو الذي خلقها ، وهو الذي أوجدها وأنزلها -جل وعلا- بَصَائِرَ يعني: حججا على فرعون وغيره.
ثم قال -جل وعلا-: فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى وقبل ذلك قوله -جل وعلا-: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى هذا بيان بصفة دعوة موسى لفرعون ، فرعون كان عاليا في الأرض من المفسدين ، والله -جل وعلا- هاهنا يبين لنبيه موسى -عليه السلام- أو بين لنبيه موسى -عليه السلام- كيفية دعوة هذا الطاغية فقال -جل وعلا-: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى .
فهذا ، أولا: فيه ينبغي للذي يدعو إلى الله -جل وعلا- أن يذهب إلى من يدعوهم إليه لدعوتهم إلى دين الله -جل وعلا- ، فنبي الله -جل وعلا- وهو أكرم الخلق في وقته ، يذهب إلى هذا الطاغية ، ثم قال -جل وعلا- فقل له: فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى هذا فيه عرض وليس فيه أمر.
موسى -عليه السلام- ما قال لفرعون: تزكى ، بل قال له: هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى يعني: أعرض عليك الزكاة والتزكي ، وقوله: هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى .
ما قال له: أدعوك حتى تزكى ، ولكن عرض عليه التزكي ، والتزكي: هو النماء والطهارة والزيادة والمدح ، هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى يعني: تحصل لك الزكاة.
وكل عاقل إذا عرض عليه مثل هذا الأمر يجيب إلى ذلك ، وكثير من الناس إذا قيل له -عرض عليه مشروع مثلا من مشاريع الخير-: هل لك إلى أن تساهم فيه ، فرق بينه وبين أن تقول: ساهم في مثل هذه المشروعات ، فالأول يحصل برغبة وقصد وحسن ، والآخر قد يستنكف فيه العبد أو عنه العبد إذا أمر به أمرا ، وبخاصة إذا كان من ذوي الجاه والسلطان.
بسم الله الرحمن الرحيم
في قول الله -جل وعلا-: هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى أيضاً موسى -عليه السلام- هاهنا أسند التزكية إلى فرعون والهداية إليه فهو يقول: وَأَهْدِيَك يعني: أدلك على الطريق الذي يحصل لك بها خشية الله -جل وعلا -فأسند الهداية إلى نفسه موسى -عليه السلام- ، وأما التزكي فلم يقل له: زكي، وقال له: تزكي وهذا الشأن ينبغي أن يستعمله الإنسان في مخاطبة ذوي الجاه والسلطان حتى يكون ذلك أقبل للدعوة، وفى هذا من الرفق واللين كما بينه الله -جل وعلا- في" سورة طه " في قوله: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى .
وهذا كله: التوجيه من رب العالمين؛ لأن المقصود بدعوة الناس ليس حظوظ النفس ، وإنما المقصود: هدايتهم ودلالتهم على الطريق الذي يحبه الله -جل وعلا-ويوصلهم إلى مرضاته ومغفرته.
ولهذا؛ فرعون طاغية متجبر ومتكبر ويبطش بالعباد ، ومع ذلك قيل له مثل هذا الكلام ، فما الظن بالكافر الذي لا يكون متصفا بصفة الجبروت والكبرياء ، وليس له سلطان؟ أو ما الظن بالمسلم الذي عصى الله؟ أو ما الظن بمسلم وقع منه خطأ أو تقصير ؟
فالذي ينبغي أن يسلك فيه: توجيه القرآن ، وهو الرفق واللين؛ فإن الله -جل وعلا- قال في" سورة العنكبوت ": وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أهل الكتاب كفار يجادلون بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم - هذه يجادلون- ولو بلغ ذلك إلى القتال.
وقال -جل وعلا- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وهذا كله يؤيد قصة أو صفة دعوة موسى لفرعون -لعنه الله-.
ثم قال -جل وعلا-: فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى يعني: موسى أرى فرعون الآية الكبرى، والآية الكبرى ، قال بعض العلماء: هي الآيات التسع التي ذكرها الله -جل وعلا- في قوله: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا .
وهذه التسع آيات فصلها الله -جل وعلا- في كتابه كما في قوله تعالى: فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ وهاتان آيتان:
الأولى: أن العصا جعلها الله -جل وعلا- ثعبانا عظيما تلقف ما يأتفكه السحرة ، والثانية: اليد، يد موسى -عليه السلام- أمره الله -جل وعلا- أن يدخلها تحت عضده ثم يخرجها؛ فإذا هي بيضاء للناظرين من غير برص ولا مرض ، كما قال الله -جل وعلا-: مِنْ غَيْرِ سُوءٍ يعني: ليس فيها برد ولا مرض ولا برص ولا أي شيء ، وإنما هي آية من آيات الله -جل وعلا-.
وقال تعالى في بيان هذه الآيات: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وهذه الآية الثالثة: أن الله -جل وعلا- أخذهم بالسنين وهو القحط.
وقال -جل وعلا- في ذكر جملة من الآيات: وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فأرسل الله -جل وعلا- عليهم الطوفان وهو السيل العارم ، والجراد الذي يأكل ثمراتهم ، والقمل الذي يؤذيهم في أبدانهم ويؤذيهم في زروعهم ، والضفادع ، ذكر بعض المفسرين أنهم كلما رفعوا ثوبا أو حجرا؛ وجدوا تحته ضفادع فتسلطت عليهم هذه الضفادع بتسليط الله -جل وعلا- وهو خلق صغير.
وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ يعني: والدم ، أن الله -جل وعلا- جعل ماءهم دما عبيقا كلما أخذوا ماء رأوه دما ، وهذا أيضا آية من آيات الله وهي قوله -جل وعلا-: آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ وذكر بعض العلماء أن البحر -ذكر البحر بدل السنين - ذكره آية بدل السنين ، والبحر -لما تبع فرعون وجنوده موسى ومن معه وكان موسى بجانب البحر- صار البحر طريقا يبسا فسلكه موسى ومن معه ، فلما لحقه فرعون وجنوده صار هذا البحر غرقا عليهم.
قال الله -جل وعلا- في" سورة الشعراء " فقال -جل وعلا- مبينا هذه الآية: فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ يعني: كالجبل العظيم.
وقال بعض العلماء: إن الآية الكبرى -في هذه- المراد بها العصا واليد ، وعليه جمهور المفسرين ، إن المراد: العصا واليد هما الآية الكبرى وهذا هو الأظهر؛ لأن الله -جل وعلا- قال في هذه الآية: فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى والكبرى: هذه تأنيث الأكبر ، والأكبر فيه مفاضلة.
فهذه الآيات التي بعث الله -جل وعلا- بها موسى بعضها أكبر من بعض كما قال -جل وعلا- في الآية الأخرى: وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا فهذه كلها آيات ولكن بعضها أكبر من بعض ، والآية الكبرى منها هي العصا واليد؛ لأن الله -جل وعلا- جعلها آية لموسى وكرر ذكرها في مواضع كثيرة من القرآن، ثم إن الله -جل وعلا- لما ذكر هذه الآيات ، لما ذكر في" سورة النمل " الآيتين اللي هي العصا واليد قال بعد ذلك: فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فدل ذلك على أن هاتين أو على أن العصا واليد هما الآية الكبرى التي أراد الله -جل وعلا- في هذه الآية.
قال الله -جل وعلا- بعد ذلك: فَكَذَّبَ وَعَصَى يعني: أن فرعون كذب موسى -عليه السلام- وما جاء به من الحق مع ظهوره ووضوحه ، وَعَصَى يعني: لم يمتثل أمر الله -جل وعلا- فيطيع موسى -عليه الصلاة والسلام- ويؤمن بالله -جل وعلا- ويوحده ، بل استنكف واستكبر وعصى الله -جل وعلا-.
ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى يعني: أن فرعون كذب وعصى ، وأدبر يعني تولى ، إما أن يكون أدبر يعني: تولى عما جاء به موسى وأعرض ، أو أن المراد: ثُمَّ أَدْبَرَ يعني: تولى عن موسى وذهب يجمع الناس ، ويسعى لجمعهم ليقيمهم في مقام الباطل الذي يقابل به الحق ، ففرعون -لعنه الله- لما جاءه موسى -عليه السلام- تولى وجمع كيده، وجاء بالسحرة ، وتواعد هو وموسى في يوم ليظهر لهم عجز موسى، ولكن الله -جل وعلا- أذله وأخزاه وأظهر موسى -عليه السلام- على السحرة الذين جاءوا بسحر عظيم.
فهنا قال -جل وعلا-: ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى أي: حشر الناس ونادى ، فَنَادَى ناداهم بقوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى قال الله -جل وعلا-: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى يعني: أن الله -جل وعلا- عذبه في الدنيا وفي الآخرة، وهذا هو الأظهر في معنى هذه الآية.
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى يعني عذبه في الدنيا والآخرة، وقد بين الله -جل وعلا- هذا التعذيب في مواضع من كتابه فقال -جل وعلا- في شأن تعذيب فرعون وهلاكه في الدنيا: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قال الله -جل وعلا-: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ .
وقال -جل وعلا-: وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى .
وقال -جل وعلا-: فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ .
وقال -جل وعلا-: وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ .
وعذاب الآخرة -كما بين في هذه الآية الأخيرة- بينه الله -جل وعلا- في آيات أخرى كما قال الله -جل وعلا-: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ يعني جعل الله جل وعلا لهم لعنة في الدنيا ولعنة في القيامة فهما لعنتان مترادفتان وبئس اللعنتان وبئس الرفد المرفود.
وقال -جل وعلا- عن فرعون: وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ هذا في الدنيا ، فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ إذا كانوا أئمة يدعون إلى النار فإن من دعا إلى ضلالة فعليه من الوزر مثل أوزار من تبعه لا ينقص من أوزارهم شيئا. وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ فكذب فأخذه الله -جل وعلا- كما في هذه الآية: نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى يعني: عذبه في الدنيا ويعذبه في الآخرة ، وهذا أمر متحقق لا محيص عنه.
ثم قال -جل وعلا-: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى أي في قصة موسى مع فرعون ، وإهلاك الله -جل وعلا-لفرعون عبرة لمن يخشى، لمن يخشى الله -جل وعلا- ، ويخاف الوقوف بين يديه، وأما الذي لا يخشى الله -جل وعلا- فلا تنفعه هذه؛ لأن الآيات إنما تنفع المؤمنين.
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ؛ ولهذا قال -جل وعلا- لما أغرق فرعون: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً يعني عبرة وعظة.
ثم قال تعالى: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ فدل ذلك على أن هذه الآية وإن كان فيها عبر إلا أنه لا ينتفع بها إلا الذي يخشى ، والذين لا يخشون ولا ينتفعون بها هم الأكثر ، والله تعالى أعلم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم : وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى
--------------------------------------------------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في هذه السورة سورة النازعات، أقسم الله -جل وعلا- بملائكته، كل ملك بالصفة التي يختص بها، فأقسم الله - جل وعلا بالنازعات غرقًا.
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا هم الملائكة الذين يخرجون أرواح الكفار بشدة، ويغرقون في أجسادهم؛ لإخراجها؛ لأن الكافر إذا جاءه الموت وبشر بعذاب الله -جل وعلا - تفرقت روحه في جسده، كما صح ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث البراء بن عازب، فإذا تفرقت هذه الروح في الجسد غاصت عليها الملائكة لتخرجها من أقاصي جسده، وتخرج هذه الروح بقوة وعنف.
ولهذا ثبت في حديث البراء بن عازب -رضي الله عنه - أنها تخرج كما يخرج السفود من الصوف المبلول، والسفود هو الحديدة التي يشوى عليها.
وقوله -جل وعلا -: وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا هؤلاء هم الملائكة الذين ينشطون أرواح المؤمنين نشطًا فيخرجونها بسرعة وخفة، وهذا كما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم - في حديث البراء أن المؤمن إذا كان في السياق وبشر برحمة الله ورضوانه، وقيل لروحه: يا أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، وروح وريحان، ورب غير غضبان، فإنها تسيل كما يسيل القطر من فِيّ السقاء يعني: تخرج بخفة وراحة على المؤمن.
وقد جاء في كتاب الله -جل وعلا - ما يدل على أن الملائكة هم الذين يقبضون أرواح بني آدم، كما قال الله -جل وعلا - في سورة الأنعام: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ .
وفي سورة السجدة: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ .
وقال -جل وعلا -: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ .
وأخبر -جل وعلا - في آيات أخرى عن إخراج الملائكة لأرواح الكفار وتعذيبهم بذلك، كما قال الله -جل وعلا - في سورة الأنعام: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ .
وقال -جل وعلا- في " سورة الأنفال ": وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ .
وأما حال الملائكة مع المؤمنين حال خروج أرواحهم فكما قال الله تعالى في " سورة فصلت ": إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ .
فهي تبشرهم مما أمامهم ، وإذا بشرتهم بما أمامهم أحبوا لقاء الله -جل وعلا - فأحب الله لقاءهم ، كما ثبت ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ، ثم تطمئنهم الملائكة ألا تخافوا يعني مما أمامكم؛ لأن الله -جل وعلا- قد قضى للمؤمنين بالأمن يوم القيامة: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ وقال -جل وعلا-: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
وكذلك تطمئنهم الملائكة ألا يحزنوا على ما تركوه وراءهم؛ لأن ما أمامهم عند الله - جل وعلا- من النعيم خير من ذلك.
وقوله: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ يعني: أن الله -جل وعلا- يجعل الملائكة أولياء للمؤمنين في الدنيا ، يسددونهم ويهدونهم إلى طرق الخير ، وفي الآخرة يهدونهم إلى جنات النعيم ، كما قال الله -جل وعلا-: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
ثم قال الله -جل وعلا-: وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا هؤلاء هم الملائكة أقسم الله -جل وعلا- بهم بصفة من صفاتهم ، وهي أنهم يسبحون بين السماء والأرض ، ينقلون أمر الله -جل وعلا- إلى خلقه ، كما تسبح الطير في الهواء.
قال - جل وعلا-: فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا أي أن الملائكة قد سبقوا إلى الطاعة والإيمان ، وهم أيضا يسرعون ويسابقون إلى طاعة الله تعالى وامتثال أمره.
كما قال الله -جل وعلا- في الأنبياء في " سورة الأنبياء ": بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وهذا رد على المشركين الذين أخبر الله عنهم أنهم: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا فقال سبحانه: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ إلى آخر الآيات. ..
وقال -جل وعلا- مبينا امتثالهم لأمره -سبحانه وتعالى-: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ .
ثم قال -جل وعلا-: فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا وهم أيضا الملائكة؛ لأنهم يدبرون الأمر من السماء إلى الأرض بإذن الله، يدبرون أو يأتون من عند الله -جل وعلا- بآياته الشرعية إلى الأنبياء والمرسلين، ويدبرون هذا الكون بما أمرهم الله -جل وعلا- به من آياته الكونية، فكل ملك من هؤلاء الملائكة قد أوكل الله -جل وعلا- إليه أمرا.
وهذه الآية كما قال الله -جل وعلا- في " سورة الذاريات ": فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا يعني: أنها تنزل بأمر الله -جل وعلا-، وهذا الأمر مقسم على الملائكة: منهم من هو موكل بالقطر، ومنهم من هو موكل بالموت، ومنهم من هو موكل بالوحي ، إلى غير ذلك. ..
ومثله قول الله -جل وعلا- في " سورة المرسلات ": فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا يعني: أن هؤلاء الملائكة ينزلون بما يفرق بين الحق والباطل ، وهو آيات الله -جل وعلا-. فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا يعني: أنها تنزل بأمر الله -جل وعلا- على المرسلين إعذارا للناس وإنذارا لهم.
وقال -جل وعلا- في " سورة القدر ": تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ يعني: أن الملائكة تنزل ليلة القدر بكل أمر سلام من عند الله -جل وعلا- في الليلة المباركة التي يقدر الله -جل وعلا- فيها آجال الخلق وأرزاقهم وأعمارهم وما يكون في العام ، كما قال الله -جل وعلا- في " أوائل سورة الدخان ": إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ .
وهذا القسم الذي أقسم الله -جل وعلا- لم يذكر رب العالمين ما أقسم عليه ، فإنه -جل وعلا- إنما أقسم ولم يذكر المقسم عليه ، والمقسم عليه محذوف لم يذكر هاهنا ، وحذفه -يعني حذف جواب القسم- كثير في كتاب الله -جل وعلا-، وهذا جائز في لغة العرب إذا دل الدليل على ذلك ، وقد دل الدليل هاهنا على أن المقسم عليه هو بعث العباد ونشرهم؛ لأن الله -جل وعلا- قال حكاية عنهم: أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً فأقسم الله -جل وعلا- على البعث والنشور.
وقد أقسم الله -جل وعلا- على بعث الخلق وجزاءهم وحسابهم في آيات كثيرة كما قال الله -جل وعلا-: وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا إلى قوله -جل وعلا-: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ وقوله -جل وعلا-: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ وكما قال تعالى في" آخر الحجر": فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ .
وكذلك في" سورة الطور" وفي" سورة الذاريات " وغيرها من السور كثير: أقسم الله -جل وعلا- على بعث الخلق ، وأمر الله -جل وعلا- في آيات أخرى -وهي ثلاث آيات ليس في القرآن غيرها- أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يقسم على تحقق البعث والنشور.
قال الله -جل وعلا- في" سورة التغابن ": زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وقال -جل وعلا- في " سورة يونس ": وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ يعني: البعث ، قال الله -جل وعلا-: قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ وفي" أول سورة سبأ ": وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ .
فهذه ثلاث آيات أمر الله -جل وعلا- فيها نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يقسم على البعث والنشور ، والله -جل وعلا- قد أقسم على هذا البعث والنشور -كما تقدم-.
ثم قال -جل وعلا-: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ هذا بيان للحال التي تكون آخر الدنيا من حصول نفختين: نفخة الصعق والفزع، يأمر الله -جل وعلا- إسرافيل فينفخ في الصور؛ فيفزع من في السماوات والأرض ويصعقون ، إلا من شاء الله -جل وعلا- من الملائكة والشهداء ، ثم يأمر -جل وعلا- إسرافيل بعد موت الخلائق بالنفخة الأولى ، أن ينفخ في الصور مرة أخرى للقيام لرب العالمين والبعث والنشور؛ فقوله -جل وعلا-: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ يعني بها: نفخة الفزع؛ لأن الرجف هو الاضطراب الشديد، ولا ريب أنه إذا نفخ في الصور حصل للخلق وجل واضطراب وخوف عظيم ، بل يحصل ذلك للسماوات والأرض والجبال وكل الخلائق التي قدر الله -جل وعلا- أن تفزع من هذه النفخة.
وقوله -جل وعلا-: تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ يعني: تتبعها النفخة الأخرى وهي نفخة الصعق ، وسميت رادفة لأنها تردف الأولى ، كما يقال: " فلان رديف فلان ، أو: ردف فلان " يعني: أنه يتبعه ، ويقال: " ترادف الأمر " بمعنى: تتابع ، فهاتان النفختان تكون الثانية تابعة للأولى وتالية لها ، وقد سبق لنا في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن بينهما أربعين يوما أو أربعين شهرا أو أربعين سنة سئل أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه- عن ذلك فلا يدري؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم-: " أخبر أن بينهما أربعين" فلا يدرى: هل هي أربعون سنة أو أربعون شهرا أو أربعون يوما ؟
وكلها سواء كانت أربعين يوما أو أربعين شهرا أو أربعين يوما، فإن هاتين النفختين كائنتان ، كما أخبر الله -جل وعلا- بذلك ، وهاتان النفختان أخبر الله -جل وعلا- عنهما في مواضع من كتابه ، كما قال الله -جل وعلا- في" سورة يس ": وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ يعني: وهم يختصمون ويتشاجرون في أصواتهم: فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ وهذا في النفخة الأولى.
ثم قال -جل وعلا- في النفخة الثانية: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ وقال -جل وعلا- عن هاتين النفختين في" سورة الزمر": وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ .
ثم قال -جل وعلا-: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ - قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ يعني: أن القلوب يصيبها الخوف والهلع والقلق من شدة ما ترى من أهوال يوم القيامة ، ولهذا من شدة هذه الأهوال؛ تبلغ القلوب الحناجر فلا تخرج ولا تدخل، ولا يستطيع أهلها أن يتكلموا ، كما قال الله -جل وعلا-: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ وقوله كَاظِمِينَ يعني: أنهم مكروهون ممتلئون خوفا وهما وحزنا؛ ونتيجة ذلك: أنهم لا يستطيعون الكلام.
ثم قال -جل وعلا-: أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ يعني: أن أبصار أهل هذه القلوب خاشعة ، يعني: ذليلة حقيرة ، وهذه أبصار الذين كفروا بالله -جل وعلا- وكفروا بالبعث والنشور؛ لأن هذه الآية أو سياق هذه الآيات وارد في شأنهم كما قال الله -جل وعلا- في" سورة القمر ": فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ يعني: إلى شيء منكر فظيع ، خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ .
وقال -جل وعلا- في" آخر المعارج ": يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ يعني: إلى علم أو إلى غاية يسرعون إليها ، خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ .
وقال -جل وعلا- في" سورة إبراهيم ": وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ يعني: مسرعين رافعي رءوسهم ، لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ يعني: لا ترجع إليهم أبصارهم ، وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ يعني: قلوبهم في فزع ووجل وخوف شديد ، كما في الآية الأخرى: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ .
ثم قال -جل وعلا-: يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ يعني: أن الكفار ينكرون البعث والنشور ويستبعدون وقوعه ، وقوله في هذه الآية: أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ فسرها بعض العلماء بأنها الحفرة وهي القبر ، ومعنى الآية: أئنا لمردودون في قبورنا أحياء بعد موتنا.
وقال بعض العلماء: إن قوله تعالى: الْحَافِرَةِ المراد بذلك: أول الأمر وابتداؤه ، يعني: أئنا لمردودون إلى أول أمرنا وهي الحياة الأولى، وهذا أيضا إنكار للبعث كما قال تعالى: وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا وعلى كلا التفسيرين فهم ينكرون البعث والنشور ، وهذا الإنكار منهم على سبيل الاستبعاد والسخرية والاستهزاء ، كما بين الله -جل وعلا- ذلك في آيات كثيرة كما في قوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ يعني: إذا تمزقتم في قبوركم وذهبتم أشلاء؛ أئنكم لفي خلق جديد ؟! يعني: مبعوثون خلقا جديدا.
أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ يعني: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إما أن يكون كاذبا على الله -جل وعلا- ، وإما أن يكون به جنون، قال الله -جل وعلا- رداً عليهم: بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ .
وقال-جل وعلا- في" سورة المؤمنون " حكاية عنهم أنهم قالوا: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ وقد تقدمت هذه الآيات ونظائرها في تفسير " سورة النبأ ".
وقوله -جل وعلا-: أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً يعني: إذا كنا عظاما بالية يدخل فيها الهواء كما قال ذلك ابن عباس -رضي الله عنه-: أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ يعني: إنا إن رجعنا إلى الحياة مرة أخرى وبعثنا؛ إنا لنحن الخاسرون ، وتكون تلك الرجعة التي رجعناها خسارة علينا؛ لأننا نكون حينئذ قد كذبنا بما يجب التصديق به ، وقد أخبر الله -جل وعلا- عنهم أنهم قد تحققت لهم الخسارة بتكذيبهم بلقاء الله -جل وعلا- سواء منهم من مات ومن كان حيا يكذب بلقاء الله؛ فالخسارة متحققة له -لا ريب في ذلك- إن مات عليه.
قال الله -جل وعلا- مبينا تحقق هذه الخسارة: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ وقال -جل وعلا- في" سورة يونس" قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ .
ثم قال -جل وعلا-: فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ أى: ليس الحال والأمر إلا أن تكون زجرة واحدة ، وهى النفخ في الصور للبعث يكون مرة واحدة وليس مرتين ولا أكثر من ذلك ، وإنما هو مرة واحدة: فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ أى: إذا هم على وجه الأرض مبعوثون لرب العالمين، وقوله -جل وعلا-: بِالسَّاهِرَةِ المراد بها: الأرض، والأرض سميت ساهرة لأنها كالانسان الذي يذهب عنه النوم ، فالذى يذهب عنه النوم يظل متحركا لا تنقطع حركته ، وكذلك الأرض تمد النبات ولا ينقطع إمدادها عن النبات ليلا ولا نهارا فكانت كالانسان الذي يسهر ولا ينقطع عن الحركة ، وقال بعض العلماء: إنها سميت بالساهرة لأن النوم والسهر إنما يكونان عليها ، والله -جل وعلا- أعلم ، ولكن المراد بالساهرة هاهنا: هي الأرض التي يبعث الله -جل وعلا- العباد عليها.
ثم قال -جل وعلا-: هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى هذا شروع في بيان قصة موسى مع فرعون ، وهذا من باب التسلية لنبينا -صلى الله عليه وسلم- وتثبيت قلبه على ما يلقاه من أذى المشركين؛ ولهذا كان غالب قصص الأنبياء مع أقوامهم إنما تقع في السور المكية ، وهذه السورة منها ، فهذه الآيات يخبر الله -جل وعلا- فيها نبيه -صلى الله عليه وسلم- بقصة موسى -كليم الرحمن- مع عدو الله فرعون ، وهذه القصص التي يتلوها أو التي يذكرها رب العالمين في القرآن ، هذه القصص بين الله -جل وعلا- فائدتها في آخر " سورة هود ".
قال الله -جل وعلا- بعد أن ذكر قصصا لبعض أنبيائه مع قومهم: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ أى أن هذه القصص فيها تثبيت لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- ، كما أن هذه القصص المقصوصة على نبينا -صلى الله عليه وسلم- هي قصص حق ليست قصص كذب ولا تخييل ولا تصور، وإنما هي قصص حق وصدق وموعظة وذكرى للمؤمنين ، أي أن فيها عظة يرتدع بها العاصون والكافرون، ويتذكر بها المؤمنون ، وهذه الآية كما قال الله -جل وعلا- في" آخر سورة يوسف ": لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ .
ثم إن الله -جل وعلا- قد ذكر قصة موسى هنا ، وكرر ذكر هذه القصة في مواضع كثيرة من كتابه: في" الأعراف " وفى" الشعراء " وفى" طه " وفى " القصص " وفى" النمل " وفى غيرها من السور ، وهذا التكرار في قصة موسى وغيره من بعض الأنبياء أو بعض القصص ، ذكر باب العلماء أن له حكمة وهى: إظهار عجز المشركين عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن؛ لأن الله -جل وعلا- يكرر هذه القصص ويذكر في موضع من الزيادة ما لا يذكره في آخر ، ويبدل كلمة بأخرى أو يضع كلمة مكان أخرى، ويذكر القصص بأساليب مختلفة، ويتحدى المشركين أن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن؛ ومع ذلك يعجزون عن الإتيان بمثل ذلك مع اختلاف الأساليب، ففيه إظهار عجز المشركين على أن يأتوا بمثل هذا القرآن؛ لأن الله -جل وعلا- تحداهم بذلك كما في" سورة هود " و " سورة يونس " ، و " سورة البقرة ".
وبعض القصص لا يذكرها الله -جل وعلا- إلا مرة واحدة، وقد التمس بعض العلماء الحكمة في ذلك، فقال بعض العلماء: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا تلى عليهم قصة واحدة ولم تكرر في هذا القرآن؛ فكأنه يتحداهم أيضا ويقول لهم: إن كان هذا الكلام من تلقاء نفسى؛ فهذه قصة جئتها فأتوا بهذه القصة بأسلوب آخر ووجه آخر ، يكون مماثلا ومناسبا للأساليب التي يذكرها الله -جل وعلا-للقصص الأخرى التي تتكرر ، والله -جل وعلا- أعلم وأحكم فيما يذكره -جل وعلا - من هذه القصص.
فهذا بعض الجواب الذي ذكره بعض العلماء ، فإن كان الأمر كذلك؛ فذلك من فضل الله -جل وعلا- على خلقه ، إن لم تكن تلك الحكمة كذلك؛ فالعبد المؤمن ليس له إلا التسليم بحكم الله وحكم رسوله -صلى الله عليه وسلم- ، والتصديق بأخبارهما سواء ظهرت الحكمة له أو لم تظهر له الحكمة؛ لأن العبد لا يثبت قدمه على الإسلام إلا بأن يسلم لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- ، ويستسلم لله وحده.
ذكر الله -جل وعلا- قصة موسى فقال سبحانه: هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى - الوادي المقدس: هو الوادي المبارك المطهر ، و: طُوًى هذا اسم لوادي ببلاد الشام كلم الله -جل وعلا- فيه نبيه موسى -عليه الصلاة والسلام- فأمره الله -جل وعلا- في هذه الآية أن يأتي الوادي المقدس بـ " طوى " ، وهذا النداء من رب العالمين لنبيه وكليمه موسى -عليه السلام- بين الله -جل وعلا- صفته في" أوائل سورة النمل ".
قال الله -جل وعلا-: فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ موسى -عليه السلام- لما قضى ما بينه وبين شعيب فأتم له الحجج التي اتفق عليها موسى مع شعيب ، سار شعيب بأهله وكانت الليلة ليلة مظلمة ممطرة باردة؛ فتاه موسى وضل الطريق هو وأهله ، فبينما هو كذلك إذ رأى نارا ، قال كثير من العلماء: إن هذه النار ليست نارا حقيقة وإنما هي نور.
فلما رأى موسى هذه النار ، قال بعض العلماء: لم يرها -حتى أهله-: قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا يعني: رأى نارا وأخبرهم أنه سيأتي هذه النار ليأتي لهم منها بقطعة يستضيئون بها ويستدفئون بها ، أو يجد على هذه النار من يهديه إلى الطريق الصحيح التي يسير عليها ليصل إلى مصر بعد خروجه من مدين ، قال الله -جل وعلا- في" سورة القصص ": فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ إلى آخر الآيات. ..
فموسى -عليه السلام- لما جاء إلى هذا الوادي قضى الله -جل وعلا- إليه الأمر وأوحى إليه ، وأول شيء أوحى إليه رب العالمين: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى وهذا يدل على أن الواجب ، أو يدل على أن أول واجب على الإنسان أن يعلمه هو: أن يعلم توحيد الله -جل وعلا- وأن يعمل به.
وهذه الآيات ذكرها الله -جل وعلا- في قوله: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وفي قوله: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ فالله -جل وعلا- قد نادى موسى -عليه السلام- ، وهذا النداء بصوت وحرف وهو كلام الله -جل وعلا-؛ لأن النداء لا يكون إلا بصوت وحرف ، وقد أثبت الله -جل وعلا- نداءه لموسى في غير آية -كما تقدم-.
فالله -جل وعلا- نداه وكلمه ، بل أخبر الله -جل وعلا- أنه كلم موسى -عليه السلام- في قوله في" سورة الأعراف ": قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي وهذا معنى قوله -جل وعلا- قال: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى اختاره يعني: اصطفاه، اصطفاه -جل وعلا- بهذا الكلام وبالرسالة.
بل الله -جل وعلا- أكد هذا الكلام تأكيدا في قوله -جل وعلا-: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا فهذا من أدلة أهل السنة على أن الله -جل وعلا- يتكلم، وعلى أن هذه الصفة ثابتة لله -جل وعلا- ، كما أنهم يستدلون به على أن الله -جل وعلا-يتكلم بصوت وحرف؛ لأن النداء لا يكون إلا بصوت وحرف.
قال الله -جل وعلا- في هذه الآية: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى وقد تقدم معنى: أن الطغيان هو تجاوز الحد بالمعصية ، وفرعون -لعنه الله- تجاوز الحد وطغى واستكبر ، وتكبر وعلا في الأرض ، كما أخبر الله -جل وعلا- عن طغيانه في آيات كثيرة.
قال الله -جل وعلا- في" أوائل القصص ": إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وفي" سورة يونس ": وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ وفي" سورة البقرة ": وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ بل طغيانه تجاوز وتعدى حتى قال كما أخبر الله -جل وعلا- في هذه الآية فقال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى يعني أنه ليس هناك إله غيره ، وأن الآلهة التي تعبد من دونه -يعني أن الآلهة الأخرى- إنما هي دون فرعون؛ فهذا فيه إنكار لألوهية الله -جل وعلا-وربوبيته ، وهذه الآية كقوله -جل وعلا- إخبارا عن فرعون أنه قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ففرعون طغى وتجاوز الحد وادعى الربوبية والألوهية من دون الله -جل وعلا-.
وهذا الادعاء هو كاذب فيه وليس بصادق؛ لأنه يوقن يقينا جازما أن هناك ربا للخلائق هو المستحق للعبادة ، وقد أخبر الله -جل وعلا- عنه في" سورة النمل " في قوله -جل وعلا-: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا .
وقال -جل وعلا- في" آخر الإسراء " أن موسى -عليه السلام- قال له: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا يعني: موسى يخاطب فرعون يقول: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ يعني: الآيات التسع إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ هو الذي خلقها ، وهو الذي أوجدها وأنزلها -جل وعلا- بَصَائِرَ يعني: حججا على فرعون وغيره.
ثم قال -جل وعلا-: فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى وقبل ذلك قوله -جل وعلا-: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى هذا بيان بصفة دعوة موسى لفرعون ، فرعون كان عاليا في الأرض من المفسدين ، والله -جل وعلا- هاهنا يبين لنبيه موسى -عليه السلام- أو بين لنبيه موسى -عليه السلام- كيفية دعوة هذا الطاغية فقال -جل وعلا-: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى .
فهذا ، أولا: فيه ينبغي للذي يدعو إلى الله -جل وعلا- أن يذهب إلى من يدعوهم إليه لدعوتهم إلى دين الله -جل وعلا- ، فنبي الله -جل وعلا- وهو أكرم الخلق في وقته ، يذهب إلى هذا الطاغية ، ثم قال -جل وعلا- فقل له: فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى هذا فيه عرض وليس فيه أمر.
موسى -عليه السلام- ما قال لفرعون: تزكى ، بل قال له: هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى يعني: أعرض عليك الزكاة والتزكي ، وقوله: هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى .
ما قال له: أدعوك حتى تزكى ، ولكن عرض عليه التزكي ، والتزكي: هو النماء والطهارة والزيادة والمدح ، هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى يعني: تحصل لك الزكاة.
وكل عاقل إذا عرض عليه مثل هذا الأمر يجيب إلى ذلك ، وكثير من الناس إذا قيل له -عرض عليه مشروع مثلا من مشاريع الخير-: هل لك إلى أن تساهم فيه ، فرق بينه وبين أن تقول: ساهم في مثل هذه المشروعات ، فالأول يحصل برغبة وقصد وحسن ، والآخر قد يستنكف فيه العبد أو عنه العبد إذا أمر به أمرا ، وبخاصة إذا كان من ذوي الجاه والسلطان.
بسم الله الرحمن الرحيم
في قول الله -جل وعلا-: هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى أيضاً موسى -عليه السلام- هاهنا أسند التزكية إلى فرعون والهداية إليه فهو يقول: وَأَهْدِيَك يعني: أدلك على الطريق الذي يحصل لك بها خشية الله -جل وعلا -فأسند الهداية إلى نفسه موسى -عليه السلام- ، وأما التزكي فلم يقل له: زكي، وقال له: تزكي وهذا الشأن ينبغي أن يستعمله الإنسان في مخاطبة ذوي الجاه والسلطان حتى يكون ذلك أقبل للدعوة، وفى هذا من الرفق واللين كما بينه الله -جل وعلا- في" سورة طه " في قوله: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى .
وهذا كله: التوجيه من رب العالمين؛ لأن المقصود بدعوة الناس ليس حظوظ النفس ، وإنما المقصود: هدايتهم ودلالتهم على الطريق الذي يحبه الله -جل وعلا-ويوصلهم إلى مرضاته ومغفرته.
ولهذا؛ فرعون طاغية متجبر ومتكبر ويبطش بالعباد ، ومع ذلك قيل له مثل هذا الكلام ، فما الظن بالكافر الذي لا يكون متصفا بصفة الجبروت والكبرياء ، وليس له سلطان؟ أو ما الظن بالمسلم الذي عصى الله؟ أو ما الظن بمسلم وقع منه خطأ أو تقصير ؟
فالذي ينبغي أن يسلك فيه: توجيه القرآن ، وهو الرفق واللين؛ فإن الله -جل وعلا- قال في" سورة العنكبوت ": وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أهل الكتاب كفار يجادلون بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم - هذه يجادلون- ولو بلغ ذلك إلى القتال.
وقال -جل وعلا- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وهذا كله يؤيد قصة أو صفة دعوة موسى لفرعون -لعنه الله-.
ثم قال -جل وعلا-: فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى يعني: موسى أرى فرعون الآية الكبرى، والآية الكبرى ، قال بعض العلماء: هي الآيات التسع التي ذكرها الله -جل وعلا- في قوله: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا .
وهذه التسع آيات فصلها الله -جل وعلا- في كتابه كما في قوله تعالى: فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ وهاتان آيتان:
الأولى: أن العصا جعلها الله -جل وعلا- ثعبانا عظيما تلقف ما يأتفكه السحرة ، والثانية: اليد، يد موسى -عليه السلام- أمره الله -جل وعلا- أن يدخلها تحت عضده ثم يخرجها؛ فإذا هي بيضاء للناظرين من غير برص ولا مرض ، كما قال الله -جل وعلا-: مِنْ غَيْرِ سُوءٍ يعني: ليس فيها برد ولا مرض ولا برص ولا أي شيء ، وإنما هي آية من آيات الله -جل وعلا-.
وقال تعالى في بيان هذه الآيات: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وهذه الآية الثالثة: أن الله -جل وعلا- أخذهم بالسنين وهو القحط.
وقال -جل وعلا- في ذكر جملة من الآيات: وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فأرسل الله -جل وعلا- عليهم الطوفان وهو السيل العارم ، والجراد الذي يأكل ثمراتهم ، والقمل الذي يؤذيهم في أبدانهم ويؤذيهم في زروعهم ، والضفادع ، ذكر بعض المفسرين أنهم كلما رفعوا ثوبا أو حجرا؛ وجدوا تحته ضفادع فتسلطت عليهم هذه الضفادع بتسليط الله -جل وعلا- وهو خلق صغير.
وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ يعني: والدم ، أن الله -جل وعلا- جعل ماءهم دما عبيقا كلما أخذوا ماء رأوه دما ، وهذا أيضا آية من آيات الله وهي قوله -جل وعلا-: آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ وذكر بعض العلماء أن البحر -ذكر البحر بدل السنين - ذكره آية بدل السنين ، والبحر -لما تبع فرعون وجنوده موسى ومن معه وكان موسى بجانب البحر- صار البحر طريقا يبسا فسلكه موسى ومن معه ، فلما لحقه فرعون وجنوده صار هذا البحر غرقا عليهم.
قال الله -جل وعلا- في" سورة الشعراء " فقال -جل وعلا- مبينا هذه الآية: فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ يعني: كالجبل العظيم.
وقال بعض العلماء: إن الآية الكبرى -في هذه- المراد بها العصا واليد ، وعليه جمهور المفسرين ، إن المراد: العصا واليد هما الآية الكبرى وهذا هو الأظهر؛ لأن الله -جل وعلا- قال في هذه الآية: فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى والكبرى: هذه تأنيث الأكبر ، والأكبر فيه مفاضلة.
فهذه الآيات التي بعث الله -جل وعلا- بها موسى بعضها أكبر من بعض كما قال -جل وعلا- في الآية الأخرى: وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا فهذه كلها آيات ولكن بعضها أكبر من بعض ، والآية الكبرى منها هي العصا واليد؛ لأن الله -جل وعلا- جعلها آية لموسى وكرر ذكرها في مواضع كثيرة من القرآن، ثم إن الله -جل وعلا- لما ذكر هذه الآيات ، لما ذكر في" سورة النمل " الآيتين اللي هي العصا واليد قال بعد ذلك: فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فدل ذلك على أن هاتين أو على أن العصا واليد هما الآية الكبرى التي أراد الله -جل وعلا- في هذه الآية.
قال الله -جل وعلا- بعد ذلك: فَكَذَّبَ وَعَصَى يعني: أن فرعون كذب موسى -عليه السلام- وما جاء به من الحق مع ظهوره ووضوحه ، وَعَصَى يعني: لم يمتثل أمر الله -جل وعلا- فيطيع موسى -عليه الصلاة والسلام- ويؤمن بالله -جل وعلا- ويوحده ، بل استنكف واستكبر وعصى الله -جل وعلا-.
ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى يعني: أن فرعون كذب وعصى ، وأدبر يعني تولى ، إما أن يكون أدبر يعني: تولى عما جاء به موسى وأعرض ، أو أن المراد: ثُمَّ أَدْبَرَ يعني: تولى عن موسى وذهب يجمع الناس ، ويسعى لجمعهم ليقيمهم في مقام الباطل الذي يقابل به الحق ، ففرعون -لعنه الله- لما جاءه موسى -عليه السلام- تولى وجمع كيده، وجاء بالسحرة ، وتواعد هو وموسى في يوم ليظهر لهم عجز موسى، ولكن الله -جل وعلا- أذله وأخزاه وأظهر موسى -عليه السلام- على السحرة الذين جاءوا بسحر عظيم.
فهنا قال -جل وعلا-: ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى أي: حشر الناس ونادى ، فَنَادَى ناداهم بقوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى قال الله -جل وعلا-: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى يعني: أن الله -جل وعلا- عذبه في الدنيا وفي الآخرة، وهذا هو الأظهر في معنى هذه الآية.
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى يعني عذبه في الدنيا والآخرة، وقد بين الله -جل وعلا- هذا التعذيب في مواضع من كتابه فقال -جل وعلا- في شأن تعذيب فرعون وهلاكه في الدنيا: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قال الله -جل وعلا-: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ .
وقال -جل وعلا-: وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى .
وقال -جل وعلا-: فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ .
وقال -جل وعلا-: وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ .
وعذاب الآخرة -كما بين في هذه الآية الأخيرة- بينه الله -جل وعلا- في آيات أخرى كما قال الله -جل وعلا-: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ يعني جعل الله جل وعلا لهم لعنة في الدنيا ولعنة في القيامة فهما لعنتان مترادفتان وبئس اللعنتان وبئس الرفد المرفود.
وقال -جل وعلا- عن فرعون: وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ هذا في الدنيا ، فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ إذا كانوا أئمة يدعون إلى النار فإن من دعا إلى ضلالة فعليه من الوزر مثل أوزار من تبعه لا ينقص من أوزارهم شيئا. وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ فكذب فأخذه الله -جل وعلا- كما في هذه الآية: نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى يعني: عذبه في الدنيا ويعذبه في الآخرة ، وهذا أمر متحقق لا محيص عنه.
ثم قال -جل وعلا-: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى أي في قصة موسى مع فرعون ، وإهلاك الله -جل وعلا-لفرعون عبرة لمن يخشى، لمن يخشى الله -جل وعلا- ، ويخاف الوقوف بين يديه، وأما الذي لا يخشى الله -جل وعلا- فلا تنفعه هذه؛ لأن الآيات إنما تنفع المؤمنين.
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ؛ ولهذا قال -جل وعلا- لما أغرق فرعون: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً يعني عبرة وعظة.
ثم قال تعالى: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ فدل ذلك على أن هذه الآية وإن كان فيها عبر إلا أنه لا ينتفع بها إلا الذي يخشى ، والذين لا يخشون ولا ينتفعون بها هم الأكثر ، والله تعالى أعلم.